العلمانية والدِّين يطرقان الباب.. فَمَن هو الذئب؟!
تتعرض العلمانية إلى تفريغ مضمونها عبر رفع شعار (فصل الدِّين عن الدولة) باختزال معانيها إلى معنى حرية (الفرد) الواحد لممارسة حياته اليومية بالطريقة التي يشاؤها دون إملاء عليه من الدّين. ويهدف هذا التفريغ إلى خلق شروخ مجتمعية وهمية بين (مُتدين ولا مُتدين)، وتشتيت الوعي الجمعي عن مشاكله الفعلية وأسبابها الحقيقة والتي تشكل قاعدة واسعة لوحدة المجتمع ضد ناهبيه.
ومع اشتعال مواقع التواصل الاجتماعي مؤخراً بقضية علمانية سورية رداً على المرسوم رقم /16/، سنحاول اليوم إعادة بعض الاعتبار إلى العلمانية والدّين على السواء.
في العلمانية
و(الدُّول البرجوازية- الدينية)
ظهرت العلمانية بمعناها الصريح مع الثورة الفرنسية 1789 ذات الطابع البرجوازي، رداً على السلطة الملكيَّة الممثِّلة لمصالح كبار ملَّاكي الأراضي في فرنسا. تبنَّت العلمانيةَ جميعُ القوى التقدمية في حينه بهدف فك ارتباط الكنيسة الراعي (الديني) لمصالح الإقطاعيات، بالإضافة إلى امتلاكها هي ذاتها (أي الكنيسة) لأراضٍ شاسعة تمهيداً لانتقال البلاد من نظام إقطاعي إلى نظام صناعي متطور. أي: أن مضمون العلمانية هو مضمون اقتصادي ـ سياسي إلى جانب مضمونها الاجتماعي، وهو ما يغفله معظم القيّمين على علمانيتنا اليوم، كما أغفلته البرجوازية الفرنسية ذاتها حين انقلبت على العلمانية وتحالفت مع الكنيسة ذاتها كراعيةٍ لمصالحها هي، عند استتباب الوضع لصالحها وتشكيلها جمهوريتها البرجوازية.
ففي الجمهورية البرجوازية ـ أيُّ جمهوريةٍ برجوازية اليوم ـ تُعبِّر التكتلات أو الأحزاب البرجوازية عن سيادة طبقتِها، لا سيادة كتلتها، وهي تمثل مصالح هذه الطبقة. لكن شكل الجمهورية هذا هو ذروة الحكم الاجتماعي بالنسبة إلى هذه الطبقة، مما يرتِّب عليها المواجهة المباشرة مع الطبقات المقهورة والمسحوقة دون تغطية أو قناع، فالعدو الطبقي لكلَا الجانبين واضح كعين الشمس، وذلك يدفعها إلى الرغبة بالعودة إلى الأشكال السابقة على سيادتها الراهنة، وهي أشكال أقل تطوراً، فتتحالف مع المؤسسات الدينية، لأن هذا التحالف يجعل شكل المواجهات مع الطبقات الأخرى أقل خطراً عليها.
من المهم الآن، عدم إغفال أن هيمنة الطبقة البرجوازية أو الغنية اتخذ في شكلها العصري السيطرة المبهمة على السلطات الثلاثة (البرلمانية- القضائية- التنفيذية)، ونشأ هذا التقسيم إثر الأزمات الناشئة عن مطالبات مثقفي هذه الطبقة (بعلْمَنَةِ هيمنتها) عندما أصبح الدّين جزءاً مكملاً للجمهورية ممثَّلةً باحتكار البرجوازيين للحياة السياسية وتحالفهم مع المؤسسة الدينية ومَن تمثلهم من (مجتمع مدني).
على أن السيطرة الأساسية بين السلطات الثلاث ظلت على السلطة القضائية التي تمثل صلة الوصل بين (المجتمع- البرلمان) و(الحكومة- السلطة التنفيذية)، إذ لطالما سُنَّت القوانين والتشريعات التي تضمنت وضع الحريات ونقيضها، مما هيَّأ لتغييرات عرَضيّة وشكليَّة ومستوعِبة مرحلياً للقلق العلماني دون المساس بالامتيازات الأساسية وجوهر التحالف البرجوازي ـ الديني التي تعبر عنها الحكومة.
يمكننا إذاً عقد مقارنة بسيطة بين علمانية الأمس ذات المفهوم الثوري، وعلمانية اليوم ذات البعد الضيق والمختصر بمفهوم يبتعد حتى عن الاعتراف بالإنسان ككائن اجتماعي ويحصره ببعده الفردي.
نظرة موضوعية إلى الدِّين
عند تناول الإسلام ينبغي تجنب حصره في الجانب الإيماني كما هو حاصل اليوم، إذ يجب أن يتم الانطلاق من واقع أن الاسلام بما هو عقيدة وشريعة ونظام سياسي ظهر خلال فترةٍ تاريخيةٍ محددة في الجزيرة العربية، في مجتمع تخلخلت بناه التقليدية الاقتصادية والاجتماعية المتمثلة بالقبيلة ووحدة النسب والدم، مع ظهور التعامل النقدي في التجارة وما نجم عن ذلك من بروز الفئوية وإعادة توزيع العمل وفي ظهور تطلعات غامضة لدى الغالبية من الأشقياء نحو تفسير الكون كتعبيرٍ يُخفي أملاً ما، إضافةً إلى التقاليد الدينية الوثنية التي أصبحت بدورها فئوية وذات طابع طبقي متمايز تجلت بدار الندوة كأبسط شكل من أشكال المؤسسات السياسية الحقوقية المعبِّرة عن حماية الزعامات الفئوية المكّية، أي كان لكلّا الطرفين من الأشقياء والأغنياء (صلته الاجتماعية الطبقية الخفية).
وفي ظل هذه الظروف جاء الإسلام كدينٍ وعقدٍ اجتماعي يحقق التوافق بين الميتافيزيقية والواقع المادي، إذ أنه اعتمد في نظامه التشريعي الجديد على إلغاء بعض الممارسات الناتجة عن شكل العلاقات الاجتماعية وتحريمها (الربا- الاحتكار- وأد البنات- الزواج القسري ـ ..) للتخفيف من شقاء أغلبية الناس، على أنه احتفظ بالشكل الغيبي المعنوي بالوعود الآجلة بالنعيم لهم. ومن جانب آخر فقد أقر الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. وهكذا فقد جاء الإسلام ملائماً لشكل العلاقات الاجتماعية في فترة تاريخية محددة، ودافعاً لعملية التطور، ففكرة (التوحيد) قطعت استمرار تعدد الانتماءات القبلية المتصلة بالأنساب وعصبياتها وصلة الدم وتعدد الوثنيات، أضف إلى تلازم التوحيد مع الغزو أو الجهاد كشكلٍ آخر للصراع، أخفى بعيداً الصراع الطبقي داخلياً، وجاعلاً من شريعة الإسلام هي القانون الواحد للمجتمع الجديد الموحد للتو، وسلطته هي السلطة الوحيدة، مكوناً بذلك الشكل الجديد للدولة المنبثق عن شكله القديم ممثلاً بدار الندوة. أضف إلى أن الموقف السياسي متمثلاً بالصراع على الخلافة بوجهه الشكلي الصارخ ومضمونه كصراع طبقي بين فئة اجتماعية وفئة إجتماعية أخرى، وموقع كل منها في المجتمع والسياسة، هو بذاته (موقف اجتهادي من الشريعة) وتفسيراتها كلٌّ من موقعه في الهرم الاجتماعي. وكذلك مسألة القضاء والقدر- الجبر والاختيار- من حيث تفسيراتها المختلفة لدى تلك الطبقات (فئة أسبغت الشرعية على استبدادها كقضاء للخالق وقدره، وأخرى أرجعت استبداد الحكام إلى الحكام أنفسهم)، وتطور البحث والاجتهاد في ذلك وصولاً إلى الذروة مع المعتزلة كأكبر الحركات الفكرية العربية الواضعة لأسس علم الكلام، الذي انبثق عنه مسار الفلسفة العربية، مؤديةً بذلك دورها في الحضارة العربية خاصةً والعالمية عامةً طوال القرون الوسطى.
إن كل ما سبق يعبر في جوهره عن كون روح الإسلام دافعة للتطور، ما يجعل فكرة عدم تناقض إيمان المسلم وتطلعاته بالتقدم سليمة، ويؤكد على تناقض التقدم في روح الإسلام مع إيمان المسلم الإقطاعي أو الرأسمالي.
في النهاية
إن افتعال ظواهر عَرَضِيَّة كالحاصلة حالياً بين أنصار ومعارضي المرسوم المذكور، ورغم ظهورها لأسباب عضوية تتعلق ببنية السلطة القائمة بذاتها، ليس لمغزاها أهمية تاريخية كبرى. بعكس الحركات العضوية الدائمة نسبياً، والمتعلقة بإدراك أن نمط العلاقات الاجتماعية القائمة حالياً قد استنفذ إمكانات تطوره، وهي تتطلب من القوى الوطنية إنضاج الشروط في المجتمع لتحقيق المهام المطلوبة في التغيير الجذري.