آخر صيحات الرأسمالية: إلغاء الواقع والإنسان
شكل النصف الثاني من القرن الماضي ردّة ظاهرة نحو اللاعقلانية والعدمية في مختلف ميادين الفكر الرأسمالي السائد كالعلوم والفلسفة، معبِّراً ضمنيّاً عن وظيفة التعمية الأيديولوجية بهدف تشويه صورة القوانين التي تحكم التاريخ والمجتمع (وحياة الإنسان) ومحاربة الفكر الاشتراكي العلمي وتجربته، الذي أنتج علوماً وثقافة وممارسة تتعارض مع كل مقولات الرأسمالية عن الفرد (الليبرالي اللاتاريخي بمفهوم الرأسمالية) والتاريخ ومصير المجتمع؛ وشكل انهيار الاتحاد السوفييتي تفلتاً لتلك الـ لاعقلانية مترافقة مع التقدم المؤقت للرأسمالية.
الانتقال إلى الغيبية وإلغاء الواقع
لأن الواقع الملموس في المرحلة الراهنة يعبر عن انفجار التناقضات العميقة والتاريخية للرأسمالية بعد تقدمها المؤقت، فإن محاولة التعمية عنه لا بد وأن تتطرف بدورها ووظيفتها كون المهمة صارت أشد في ظل تراجع مقدرات الرأسمالية على ترويج وتمويه علاقاتها، وإذا كانت الفاشية هي نتاج عسكري سياسي للتطرف لكمّ صوت الواقع، والتي تواجه اليوم بدورها كوابح مضادة من التيار الصاعد عالمياً، فإن وزن التعمية سيتزايد في المستوى الأيديولوجي إلى حد ما صار واضحاً أن الفكر السائد لا يعبر اليوم فقط عن رجعية ولا عقلانية قصوى(كونهما يعبران عن اعتراف بالواقع أساساً)، بل انتقل إلى حالة نفي الواقع الموجود إلى عوالم غيبية واهمة، معبراً عن أقصى المذاهب الفلسفية مثالية.
في تغييب الإنسان والواقع
هناك حالة ظاهرة متّسعة وجديّة اليوم في علم النفس مثلاً، لتفكيك الوجود الفردي إلى حد يختفي فيه الإنسان والذات الإنسانية من المشهد، وعلى الرغم من وجود جذور لها في السابق، مثالاً: في التيار التطوري- الجيني (الذي يستبعد البعد الاجتماعي للإنسان وتاريخيته) أو السلوكي التبسيطي (الذي يحصر الإنسان بتشريط: مثير-استجابة)، إلا أنها اليوم تدفع إلى مستوى التنظير الفكري المباشر القائل بغياب هذه الذات الإنسانية كانعاكس في الوعي للفرد الفاعل الواقعي.
وتذهب هذه المحاولة حد الترويج (العلمي- الفلسفي) لخلاصات هذا المنطق وأقصى مقولاته القائلة بنفي وجود الواقع المعروف نفسه، لا الإنسان فقط.
تتكامل هذه المادة (العلمية) الأكاديمية مع الأدوات الدعائية الرأسمالية على وسائل التواصل الاجتماعي، والندوات العالمية والتلفزيون، وبمرورٍ عام على الصفحات (العلمية) والصحيفة على فيسبوك يمكن الخروج بأمثلة ترويجية كثيرة لمنطق تغييب الإنسان والواقع نفسه على حد سواء.
أوراق وكتب علمية
(لا غبار عليها)
في كتاب بعنوان (الفكر المتجسد: العلم المعرفي والتجربة الإنسانية) صادر عن منشورات معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ذائع الصيت، وجامعة هارفر في الـ 2016 (أعيد نشره عن نسخة صادرة في الـ1991) يذهب الكتّاب للقول: إن الذات الإنسانية وهم وغير موجودة، فما هو موجود هي الأحداث التي تسيل والتقاط اللحظة (هنا والآن) عبر تقاليد (التأمل والتنّور العقلي) هو ما يجعلنا قادرين على تفسير محتوى التجربة، استناداً إلى بعض المذاهب الروحية كالبوذية مثلاً، فـ (ليس من العدل ربما أن نطلب أكثر من العلم) كإجابات على أسئلة الواقع الإنساني حسب تعبير الكتاب.
إذا الذات الإنسانية غير موجودة، وبالتالي الضرورات التي تحكمها تصير عرضة للنفي، والإنسان برمته يصير مغيباً. وهذا يتكامل مع مجموعة أبحاث أخرى منها: التيار العصبي- الفيزيولوجي، البحث الذي يحوّل مجمل الحياة الواعية إلى عمليات دماغية كهروكيميائية، وهنا يتفكك الوجود الإنساني إلى ملايين من العصبونات في تفاعلها، في نفي واضح للمستوى النفسي، الذي هو انعكاس للمستوى الاجتماعي الذي لا يشكل الدماغ إلّا مستوى تحقق لهذين المستويين، وليس في حد ذاته تفسيراً للوجود الواعي الذاتي الإنساني.
في التعبير الأيديولوجي عن المنطق العصبي- الدماغي أعلاه، واستخدامه وظيفياً على صفحات الفيسبوك، سنجد خبراً تحت عنوان (ماذا لو كان الوعي ليس هو ما يوجه عقل الإنسان؟) على صفحة (شبكات التكنولوجيا) هو إعادة قراءة لمقال (مطاردة قوس قزح: الطبيعة غير الواعية للوجود) نشر العالم الماضي (كان مقال سابق في قاسيون قد أشار إليه) في مجلة نفسية عالمية (Frontiers in Psychology) حول أن الوعي ليس إلّا مسرحاً لعمليات ما دون الوعي، والذات الفاعلة ليست إلا متلقياً لما يحصل، ولا قدرة لها على التأثير في الأحداث نفسها التي هي كامنة في الدماغ نفسه. يتكامل ذلك مع خبر آخر على صفحة مجلة الإندبندنت تحت عنوان مبهر آخر (محللو بنك أوف أميركا يعتقدون أن هناك احتمالاً 50% كوننا نعيش في مصفوفة) في استعارة لفيلم الخيال (المصفوفة) حيث اعتبر المقال أن العالم قد لا يكون إلّا محاكاة يتم التحكم بها من قبل حضارة أرقى قد تكون من عالم آخر. ويترافق هذا الهجوم لنفي الواقع والإنسان مع خبر بنكهة فلسفية على صفحة (أخبار العلوم) يضم عنوانه الطويل جملة (الوعي مجرد وهمّ!) التي هي تعبير عن جوهر طرح فيلسوف (العصر الحديث: دانييل دينيت) الأميركي (المختص) بفلسفة الوعي والعلوم المعرفية وغيرها. ودينيت هذا يقول أيضاً: أن الوعي هو ساحة عرض ومسرح لعمليات لا يمكن إلا توصيفها دون أن نقدر على الفعل فيها.
أمثلة سريعة عن العملية الممنهجة لنفي الواقع نحو العدمية بدعم علمي- فلسفي (ومن محللي قسم إدارة الثروة في مصرف بنك أوف أميريكا!) لن تجدي العقل الرأسمالي السائد نفعاً، فالوقائع دائما عنيدة، وكيف إذا كانت مؤلمة!