عن ذكريات «الزمن الجميل»
يكفيك صرف ربع ساعة على صفحتك الرئيسة على فيسبوك، وفي أي وقت تشاء، لترى أمامك سيلاً عارماً من «النوستالجيا»... صفحات بالجملة عن «الزمن الجميل»؛ ابتداءً بالأغاني ومروراً بالمسلسلات الكرتونية والأفلام القديمة، وليس انتهاءً بالاستحضار الدائم لثلة من الشعراء الكبار أمثال: قباني والنواب ورياض الصالح الحسين ودرويش...
للوهلة الأولى، يمكن تفسير الموضوع انطلاقاً من موضوعة الأجيال؛ أي: أنّ أولئك الذين قطعوا حاجز الثلاثين وربما الأربعين، وبدأوا يعاينون العد العكسي للزمن، في أبدانهم وحجم أحلامهم، يصرفون همّ المستقبل ومواجهته بشيءٍ من الماضوية التي تلعب دور نقاط ارتكاز آمنة، يتعرف الشخص فيها على هويته الذاتية المشتتة والضائعة ضمن الفوضى الحاصلة، الكونية والمحلية.
لكنّ نظرة أقرب وأكثر تمحيصاً قد توحي بأشياء أعمق... فوفقاً للتفسير السابق_ على أساس الأجيال_ فإنّ المنطقي هو أن يكون «الزمن الجميل» الخاص بمن هم اليوم بين (30-40) سنة من العمر، هو زمن الثمانينيات والتسعينيات، وبالنسبة لمن هم بين (40-50) سنة، السبعينيات والثمانينيات، وهكذا... ولكنّ لنقف قليلاً عند مفردات «الزمن الجميل» لنحاول تحديدها بدقة أكبر:
_ أغاني أم كلثوم، عبد الوهاب، كارم محمود، وديع الصافي... إلخ
_ أشعار درويش، النواب، قباني، بدوي الجبل... إلخ
_ قصص غسان كنفاني، زكريا تامر، سعيد حورانية... إلخ
_ روايات حنا مينة، الطيب صالح، الطاهر وطار... إلخ
_ مسرح الشوك، وأعمال سعد الله ونوس والساجر والماغوط... إلخ
وهذه عينة صغيرة يمكن توسيعها بشكل كبير، خاصة إذا أدخلنا إليها العناصر الثقافية غير العربية. لكن المشترك ضمنها هو أنها تدور بمعظمها حول فترة مركزية هي خمسينيات وستينيات وجزء من سبعينيات القرن الماضي.
تقودنا هذه الفرضية، (التي تحتاج إلى إثبات عبر أبحاث معمقة في مختلف المجالات الثقافية، والتي لا ندّعي هنا اطّلاعنا الكافي عليها، ناهيك عن القدرة على الدخول في بحثها بشكل أكاديمي)، تقودنا إلى القول: إنّ فكرة «الزمن الجميل» والحنين إليه، ترتبط بزمن محدد، وليست فكرة نسبية تتعلق بتعاقب الأجيال، وحنين المتقدمين في العمر إلى شبابهم وصباهم.
وقبل الدخول أكثر في نطاق «الزمن الجميل» بحثاً عن مصدر جماله، لا بد من إزاحة سوء فهم قد ينشأ لدى التعامل مع الفكرة؛ نقصد بالضبط ضرورة التمييز والتفريق بين الحنين إلى الماضي الذي نتحدث عنه هنا، وبين أنواع أخرى من الحنين ترتدي من حيث الشكل على الأقل طابعاً رجعياً...
المثال الذي يقفز إلى الذهن مباشرة في هذا الإطار، هو: الحنين المرتبط بالذهنية الإقطاعية، والذي يمارسه ضحايا الإقطاع السابقون أكثر من الإقطاعيين السابقين أنفسهم، (وهو أمر طبيعي ناتج عن هيمنة أيديولوجية الطبقة السائدة في حينه، والتي خرجت من جلدها ملتحقة بركب البرجوازية التابع، تاركة وراءها البرجوازية الصغيرة. والتي بقيت عالقة بدورها، بالمعنى الثقافي، في المكان نفسه تقريباً، وزاد رسوخها فيه اللبرلة المتوحشة التي قدمت بديلاً ثقافياً هشاً ومفرغاً من «القيمة الأخلاقية الفروسية» المرتبطة بمرحلة الإقطاع). وبالملموس فإنّ أشكال تجلي هذا النمط من الحنين الماضوي ذي الصبغة الرجعية (وأؤكد: من حيث الشكل على الأقل، وليس بالضرورة من حيث الشكل والمضمون، لأنّ هذا الحنين نفسه يحتوي جوهراً تقدمياً وإيجابياً يمكن البناء عليه، لأنّه بأبسط تفسيراته رفض للواقع القائم) هو ذاك الذي جرى استغلاله لتكوين قاعدة جماهيرية ما للإسلام السياسي بتياراته المختلفة، والذي يرفض لا القيم السلبية لـ «الحياة الحضارية المعاصرة» فحسب، بل ويرفض أيضاً القيم التحررية والإيجابية بشكل أكثر عنفاً وإصراراً.
إذاً، فالحنين الذي نتحدث عنه، ليس ذاك المرتبط بالتقدم بالعمر، وليس أيضاً الحنين الطوباوي نحو ماضٍ افتراضي كانت فيه الأمور على خير ما يرام، كما هو الحال لدى الأصوليين. الحنين الذي نقصده، حنين ملموس ومحدد، لزمن محدد وبصفات محددة.
لتوسيع هامش التفكير أكثر، يمكن ملاحظة ظاهرة مشابهة، وفي مختلف الأنواع الفنية، في أوروبا والولايات المتحدة وروسيا، وربما غيرها.
السياق التاريخي لـ «الزمن الجميل»، وفق الافتراض الذي سقناه، هو المراحل الأخيرة من فترة الصعود الثوري على المستوى العالمي (انتصار ثورة أكتوبر، تشكل الاتحاد السوفياتي، الانتصار على الفاشية، حركة التحرر الوطني...) وعِقدٌ من الزمن أو أكثر بقليل بعد انتهاء الصعود، مع تفاوت وانزياح زمني بين بلد وآخر، وهنا يمكن التمييز بين نوعين من الانزياح، الأول: ناجم عن طبيعة العلاقة بين البنية التحتية والبنية الفوقية، والذي تتأخر فيه الفوقية عن التحتية. والثاني: ناجم عن تأخر وصول أمواج التغيرات الكبرى من مركز الحركة (في أوروبا وروسيا والصين والولايات المتحدة في حينه) إلى الأطراف.
بكلام آخر، فإنّ فترة الصعود الثوري، حيث يجري وضع أسئلة الوجود الكبرى على طاولة البحث التاريخي؛ أسئلة العدالة والهدف من الوجود والمصير والسعادة الإنسانية والظلم... إلخ، هي بالذات الفترة التي تطالب الفن والخيال بإجابات جدية وعميقة، وتؤدي إلى نتاج فني عظيم، يتحول بعد فترة من الزمن إلى ذكريات عن «زمن جميل». على العكس من فترات الركود الثوري التي تضيع فيها الأسئلة الكبرى، ويجري استبدالها بفذلكات وتخرصات مما نرى ونسمع ونعيش.
ولكن، ألسنا الآن في فترة صعود ثوري جديد؟ فأين هو «الزمن الجميل» المعاصر؟ اشتقاقاً مما قلناه سابقاً عن الانزياح الزمني بين التحتي والفوقي، فالزمن الجميل المعاصر لم يزل بعد جنيناً ينمو، ويختزن آلامنا ويخمرها، ليعيد خلقها عمّا قليل... فأجمل الأيام/الانتصارات/الأحلام/الأزمان هي تلك التي لم نعشها بعد!