المافيا الإيطاليّة_ الأمريكيّة.. وكلاء للرأسماليّة
«البلشفيّة تطرق الأبواب، ولا يمكننا تحمّل تركها تدخل... علينا أن نبقي الأمريكيين ككتلة واحدة آمنة غير ملوثة. علينا أن نبقي العمّال بعيدين عن الأدب الأحمر والحيل الحمراء. علينا أن نُشرف على بقاء عقولهم صحيحة»_ آل كابوني.
تعريب وإعداد: عروة درويش
تبعاً لتصويرهم كمقاتلين طماعين وخاطئين، ولكن بارعين ومبتكرين، ضدّ المؤسسة القائمة، لطالما لعب أعضاء المافيا دور النموذج المثالي «لنقيض_ البطل Anti _hero» الجذاب في الثقافة الأمريكيّة الدارجة.
لا يبدو بأنّ هناك الكثير من المشاكل في هذا الأمر، فبعد كلّ شيء، نادراً ما يتمّ إظهار رجال العصابات هؤلاء على أنّهم لطفاء أو خيرون، ونقيض_ البطل، هو دوماً شخصيّة محببة ومفضلة لدى كتّاب السيناريو.
بأيّة حال، يبدو لي بأنّ السياسات وراء هذا النوع من الأدب والفنون، لم تخضع لما يكفي من الفحص، وخاصة في الأوساط اليساريّة. مثال: يلعب مسلسل سوبرانوز بوضوح على موضوع هشاشة الذكورة، وعلى سخافة المدّة الطويلة التي يحافظ فيها أعضاء المافيا عليها. وبشكل مشابه، كتب الكثير عن طبيعة أعضاء المافيا بوصفهم رجالاً عصاميين، ومتسلقين اجتماعياً، وعن أسطورة انتقالهم من الفقر للثراء المتأصلة في مهنتهم الإجراميّة. لكنّ هذا يبقي التركيز على رجالات المافيا كأفراد وحسب.
في تأويل مختلف، ركّز فريدريك جيمسون في مقالته الشهيرة عن فيلم العراب: «تجسيد المجردات والمثاليّة»، على المافيا بوصفها شيفرة تدلّ بشكل رئيسيّ على السطوة الإجراميّة والطفيليّة المنتشرة للرأسمالية نفسها. لكنّ هذا التحليل ينزع عن أبطال_ العصابات أصلهم الاقتصادي والتاريخي.
لكن إن ركزنا على الوظيفة الاقتصادية التاريخيّة للمافيا كمؤسسة، يمكننا أن نرى آثاراً سياسيّة مختلفة. فعندها يجب على أيّ سياسيّ راديكالي أن يرى القبول الذاتي لتصوير رجال المافيا على أنّهم نقيض_ للبطل، بشكل أكثر سلبيّة بكثير ممّا يقترحه جيمسون في قراءته التحليليّة النفسية. فالأمر الذي على المحك لدينا هو أكثر من مجرّد غموض تجاه الرأسماليّة ككل. فالمافيا بوصفها بطلة روائيّة نقيضة_ للبطل، هي بذاتها أداة سياسيّة رجعيّة.
من المهم، كما هو الحال دائماً في مثل هذه الظواهر، أن نتروّى وألّا نُرجع وجود أو طبيعة المافيا إلى الممارسات الرومانسيّة واللطيفة المتبقية من الحقبة الإقطاعيّة. إنّ دورهم الرجعي التام في إرهاب الفلاحين في «جنوب إيطاليا» والعمل كحرّاس لملّاك الأرض الكبار، واضح ومثبت بشكلٍ كافٍ. لكن في الحقبة الحديثة، لم تؤدّ العلاقات الرأسمالية إلى القضاء على المافيا، كما قضت على غيرها من الأشياء من الحقبة الإقطاعيّة، بل قامت بتقوية عملياتها عوضاً عن ذلك.
لقد باتت نشاطاتهم في تجارة المخدرات وغيرها من النشاطات ذات صلة بسرعة بالسوق العالمية، وعملياتهم المتعلقة بالأرض والمضاربة في الإسكان وبحماية التجمعات الإجرامية، جميعها تخدم كأمثلة عن الدور التقليدي الذي لعبته المافيا كوسيط، بشكل جديد له مكانته في الحقبة الرأسمالية. ليس هناك فرق بين باليرمو ونيويورك.
بمعنىً آخر، إنّهم يعملون الآن كوكلاء للطبقة الحاكمة. ليس بوصفهم ظاهرة اجتماعيّة مميزة، بل بوصفهم قوّة دافعة للرأسماليّة بمعنىً أكثر تجريداً.
وكما يصفهم لوبو، وكما تظهر أفلام المافيا بثبات وعلى نحو كبير من الجديّة، تحبّ المافيا أن تبني تصوراً عن نفسها، بأنّها مرتبطة ببعضها بسبب قانون شرف قديم، يطلب منهم إعالة المظلوم ومهاجمة القوي. فهم يرون أنفسهم غالباً «ككاثوليكيين» تقليديين طيبين، ويصرون بشدّة على فرض مبادئ دينهم، ومن بينها فوبيا_ المثليين الموروثة والمقاربات الأسريّة البطريركيّة_ الأبويّة.
لكن يستحيل فهم السبب الذي دفع بكلا صانعي ومشاهدي نمط أفلام المافيا، أن يأخذوا بهذا الكلام. ففي الكتاب الكلاسيكي «ابتكار التقاليد» للمؤرخ هوبسباوم، يتبيّن: أنّه كلما زاد ظهور المافيا المعاصرة كوكيل لرأس المال، مرتكبة أكثر صيغ الرأسمالية عدائيّة وتردياً ممّا يمكن تخيله، كلّما تحمست المافيا لإظهار نفسها كمدافع عن القيم التقليديّة.
وبشكل مشابه، فإنّ هذا النوع من النفاق فيما يخصّ قانون الشرف، وهو الكذب والتحريف في أسّه، ينطبق كذلك على علاقة المافيا بالدولة. في الواقع، ليست المافيا مناهضة للدولة وليست حامية للمجتمعات المحليّة التقليديّة ضدّ التدخل الحكومي. إنّها وسيط بين الدولة والمواطنين لمصلحتها الخاصّة.
يبيّن تاريخ إيطاليا، أثناء الحكم الفاشي، أنّ لدى المافيا والفاشيّة الكثير من الأشياء التي يتفقان عليها. لم يكونا في الحقيقة مختلفان عن بعضهما البعض. وكان الكثير من شخصيات المافيا الرئيسيّة منخرطين في الميليشيات الفاشيّة الرسميّة، المناهضة لنشاطات المقاومة اليساريّة القائمة على حركات الفلاحين والعمّال. بعد الحرب العالميّة الثانية، شهد مسرح السياسة الإيطاليّة فساداً وتواطؤاً مستمراً بين المافيا وبين الشخصيات الحكوميّة. خاصّة، ولكن ليس بشكل حصري، بين أحزاب اليمين ويمين الوسط.
على العموم، قبلت المافيا الصفقة مع الدولة. وزاد هذا الأمر، ولم يُنقص، سطوة المافيا بواسطة إرهاب المنتجين وصغار الرأسماليين في جنوبي إيطاليا أثناء القرن العشرين.
وينسحب الكلام ذاته على قارّة أمريكا الشماليّة، حيث تمّ إنشاء المافيا لتضلع بشكل فعّال بالدور ذاته، مثلما يحدث في أجزاء من كندا وفي مدن مثل: نيويورك وبوسطن. في الولايات المتحدة، وهي حيث تمّت صياغة معظم الرواية الكلاسيكيّة عن المافيا، يتمّ إظهار المافيا باستمرار وكأنّهم زعماء الحرس الشعبي، كوسطاء سلطة يحمون مهاجري مجتمعات الإيطاليين_ الأمريكيين من الإجرام القذر، ومن التدخلات العنيفة لدولة البروتستانت الأنغلو_ ساكسون البيض. وفي حين أنّ هناك بعض الأسس الحقيقيّة لهذه الادعاءات، فإنّها مضخمة لتدعيم أسطورة المافيا بوصفها حامية للمجتمعات التقليديّة.
مثلما يحدث في أيّة مؤسسة أعمال رأسمالية، تسعى المافيا للتخلص من المنافسة وللحفاظ على الاحتكار: أي احتكار العنف الطفيلي ضدّ العمال وضدّ الرأسماليين الصغار. إنّه لتناقض سياسي جوهري، والخطأ، أن تأخذ التبرير الإيديولوجي لسعيهم نحو الاحتكار كما يسوقونه. فهذا التبرير يماثل ادعاء الطبقة الرأسمالية، أنّه من غير احتكارهم لقواعد الاقتصاد، ولا يمكن لعملية الإنتاج أن تتم.
المافيا أصغر من أن تشكّل زعماء حرس شعبي، لأنّها لا توفر أيّة خدمات تتجاوز القضاء على منافسيها. لكنّها كذلك أكثر من مجرّد عصابات، لأنّها تتوسط حكم رأس المال عبر العنف: وتحديداً في الحالات التي يكون فيها رأس المال بحاجة لها لإرهاب العمّال، كي يقبلوا بالاستغلال الواقع عليهم.
العامل الحاسم هنا، هو: عداء المافيا لنشاطات منظمات العمّال والفلاحين المستقلة، ما لم يكن بالإمكان إدماجها في برنامج فرديّ ذو صبغة معنويّة فقط. وعليه فإنّ التواطؤ بين المافيا وأحزاب اليمين والوسط والكنيسة الكاثوليكيّة (من بين آخرين) هو تحالف ضدّ اليسار، وتحديداً ضدّ النقابيين والشيوعيين. هذا هو المعنى الحقيقي للمافيا اليوم، ومعناها في كامل الحقبة الرأسمالية كذلك. ولا يقتصر الأمر على الحالة الإيطالية: فقولنا ينسحب بشكل كبير على ائتلاف المخدرات المكسيكي، وعلى المافيا الروسيّة.