أحلام دارجة!
إذا كنت من متابعي الأفلام الهوليودية، وتحديداً من نوع الدراما الاجتماعية، تستطيع أن تحصي مجموعة هامة من الأفلام التي تقول لك وتكرر: عش يومك... حقق حلمك...وإلى ما هنالك من الدعوات التي يحملها الأبطال في انتقالهم من عالم الرتابة إلى عالم اكتشاف الذات، عبر منعطفات وإشارات قدرية، لينتهي الانتقال بحصد غنائم الراحة والسعادة، وبمشاهد مليئة بألق الرضى.
كذلك الأمر ترى تقاطعاً غريباً إذا ما استطلعت أمزجة الشباب السوريين، أو غيرهم، حول أحلامهم غير المقيدة، فجزء هام على سبيل المبالغة يحلم أن يكون رحّالة يجوب العالم عبر (كرفانة) حصراً، ويقضي حياته بين جبال وصحار وأدغال، ومدن مختلفة، ويلتقط الصور مع الأجناس والألوان المتعددة من البشر، ويفضّل أن ترتدي الشعوب في الصورة لباسها التقليدي...
وآخرون يحلمون أن يكونوا موسيقيي الطرقات، وملوني الجدران العابثين، وغيرهم يحلم بأن يجوب العالم مساعداً الفقراء، مضمّداً الجراح، مع الكثير من صور السيلفي مع أطفال الفقراء الممتنين.
ولكن كم من شخص نعرفه انتقل من العالم اليومي الرتيب للعمل المضني، ليشتري مزرعة ويعتني بحيواناتها، أو ليفتح مطعمه الخاص ويقدم للآخرين وجبات مليئة بحب الطبخ على سبيل المثال؟!... أنا شخصياً لا أعرف أحداً قريباً أو بعيداً امتلك خيار تغيير عمله تغييراً جذرياً، والانتقال إلى عمل مريح يمتلك فيه وقت الفراغ، وينتعش فيه في وقت العمل...
وبالطبع، لا أعرف أحداً امتلك القدرة على السفر عبر العالم بحافلة، إلا في ميديا المنوعات العالمية متحدثة عن شاب أمريكي ترك عمله في البنك، وحوّل سيارته إلى منزل متنقل، وجاب العالم. فلا أحد من معارفي يملك جواز سفر أمريكي يقفز به فوق الحدود، ولا مدخرات تتيح رحلة من هذا النوع، وأخيراً والأهم أن أقرب شيء شاهدته للكرفانة كان عربات سكن العمال في المواقع الإنشائية، ولم توحٍ لي بالأسفار والحرية على الإطلاق... وكذلك الأمر لا أحد من معارفي استطاع أن ينقذ الفقراء عبر العالم، إلا إذا انتخبته الحظوظ والعلاقات والتدبير وحسن إدارة السيرة الذاتية، لينجح بأن يكون ضمن فرق المنظمات غير الحكومية العالمية، ويقبض آلاف الدولارات ثمناً لأتعابه، التي قد يكون آخرها وأقلها شأناً مساعدة بعض الفقراء...
المفارقة، أن الأحلام الأكثر انتشاراً، هي الأقل واقعية، وكلها مطعّمة ومستلهمة من قوالب تسويق الأحلام: هوليود ومقولة عش يومك... وغيرها الكثير. ولكن لماذا يسوقون كل هذا؟ ولماذا تلقى أحلام الحرية المعلبة كل هذا الصدى؟
السبب بسيط... لأننا جميعاً متعبين، ونحتاج للانعتاق، بل أكثر من هذا، لأننا مقيدون بعمق وعنف بالواقع وتحديداً بمفرداته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية... تلك الجوانب التي تمتلك من القوة والتحكم ما يجعل من كل واحد منا، طينة تتشكل وتلتوي وفقها: فهي تحدد أين ولدت؟ من والديك وكيف هما؟ هل تأكل ما يكفي؟ هل تتعلم كما يجب؟ هل تمتلك الوعي الكافي لتعرف من أنت وماذا تريد أن تكون؟ هل تمتلك الخيار إن عرفت؟... والسؤال الأهم: هل تمتلك ما يكفي لتولد ولتترعرع وتعي وتستمر وتختار وتغير وتعيش خيارك؟
الأغلبية لا تمتلك التحكم بمحطات الواقع الذي يعبئها في قوالب ومسارات، يرسمها في نهاية المطاف أولئك الذين يمتلكون القدرة على التحكم... هؤلاء الذي يسوقون لنا الأحلام لنشاهد أفلامهم، ونترفه بإعلاناتهم، تلك الأحلام المعلبة التي تداعب رغبتنا في الانعتاق والخروج عن المرسوم، والتي تريد أن تقول لنا كذباً: (أنتم المتحكمون: غيروا حياتكم... أنتم المسؤولون واجهوا الواقع، وها هي الدلائل: واحد بالمليار قد استطاع أن يغير حياته، ونحن نستلهم منه تسعين بالمئة من الأحلام المسوّقة).
بكل الأحوال أغلب الناس تتجاوز مرحلة الأحلام الشائعة، وتبحث عن الرضى بالمساحات الضيقة التي قد يتيحها الواقع من ألفة وإنجاز وصحبة... ولكن أنجحهم على الإطلاق في الإجابة عن سؤال ما هو خياري وكيف أعيشه؟ هم من يدركون مصدر سطوة الواقع الحالي، وينتمون للرغبة الجماعية بالعمل الحثيث على الانعتاق نحو واقع جماعي أفضل... حتى لو تطلب هذا أعمارهم ثمناً لهذه الرغبة وهذا الخيار.