فولتير وجرس الإنذار

فولتير وجرس الإنذار

متى تحوَّل فولتير لأول مرة في حياته من الهزل إلى الجد, ومن ثمَّ شّمَّر عن ساعديه وتقدم وحيداً في وجه الطغيان؟ الجواب: عندما طفح الكيل, فقد أبدى أحد الكُتّاب اشمئزازه من الدولة والدين والشعب، وكتب بأنه سيسخر من كل شيء, أجاب فولتير: ليس هذا وقت التهكم والسخرية, إن الفطنة والسخرية لا تتفقان مع المجازر والقتل. هل هذه البلاد موطن الفلسفة والسعادة؟ كلا, إنها بلاد الفتن والجهل والتعصّب والقتل.

1
كانت مدينة تولوز الفرنسية لا تبعد كثيراً عن مدينة فيرني التي يعيش فيها فولتير, وكان رجال الدين الكاثوليك يتمتعون بسلطة مطلقة في هذه المدينة، أيام فولتير, فمثلاً: لا يُسمح لأي بروتستانتي في تولوز بأن يكون محامياً أو طبيباً, أو صيدلياً أو بقالاً, أو بائع كتب أو طبَّاعاً. ومُنع الكاثوليك من استخدام أي خادم أو كاتب بروتستانتي. وفي عام 1748 حُكم على امرأة بغرامة قدرها ثلاثة آلاف فرنك، لأنها استعانت بقابلة بروتستانتية. وحدث أن كان يعيش في تولوز رجل بروتستانتي يُدعى جان كالاس, وكانت له ابنة تحوَّلت إلى المذهب الكاثوليكي وولد شنق نفسه, بسبب فشله في الحصول على عمل. وكان القانون في تولوز يقضي بأن يوضع جثمان المنتحر عارياً على محفة من عيدان القصب المتشابكة، ووجهه إلى الأسفل ويسحب عبر شوارع المدينة, وفي نهاية مشواره يُعلَّق بحبل المشنقة. ولكي يتجنب الأب هذا المصير المخزي لابنه طلب من أقاربه أن يشهدوا بأن ولده توفى وفاة طبيعية. وعلى إثر ذلك انتشرت الشائعات في تولوز بأن الأب قتل ابنه ليمنعه من اعتناق المذهب الكاثوليكي, وهنا قامت القيامة وفار التنور, وألقي القبض على الأب ومات تحت التعذيب عام 1761 وتداعت العائلة, وأمام المطاردة هربت إلى فيرني وطلبت مساعدة فولتير. استقبلهم الرَّجل في بيته وواسى جراحهم وأثارت دهشته واشمئزازه، الطريقة المرعبة في مطاردتهم وتعقبهم. وفي الوقت ذاته جاءت أخبار مصرع المواطنة اليزابت سيرفينس, وانتشرت الشائعات بأنها دُفعت إلى جُبِّ ماء وهي في طريقها لتعلن تحوّلها من البروتستانتية إلى الكاثوليكية. واعتقل شاب صغير على إثر هذه الإشاعة في عام 1765, يُدعى لاباز, بتهمة تشويه الصليب، وعليه صورة المسيح، وأنزل به العذاب, واعترف بذنبه, فقطع رأسه, وقذف بجسمه إلى النار, وسط استحسان الجمهور وتصفيقهم, واحترقت معه نسخة وجدت بحوزته من كتاب فولتير (القانون الفلسفي).
2
لقد أثار هذا الظلم والطغيان فولتير، وأحاله من كاتب ساخر إلى فيلسوف مجاهد، وشَمَّر عن ساعديه واستعد للحرب, وهنا تبنى شعاره المشهور (اسحقوا العار) وحرّك روح الشعب الفرنسي ضدَّ مظالم الكنيسة، وساعد في هزِّ عرش الملك. لقد أرسل دعوة إلى أصدقائه وأتباعه يدعوهم فيها إلى خوض المعركة (...وحدوا أنفسكم واقهروا التعصب والأوغاد, واقضوا على الخطب المضللة والسفسطة المخزية والتاريخ الكاذب, لا تتركوا الجهل يُخضع العلم, سيدين لنا الجيل الجديد بعقله وحريته. إن الإنسان الذي يقول لي: آمن كما أؤمن وإلا فإن الله سيعاقبك, سيقول لي الآن: آمن كما أؤمن وإلا سأغتالك...) يعتقد فولتير: أن التعصب المقرون بالخرافات والجهل كان أساس البلاء في القرون جميعها, ولن يتحقق السلم الدائم, ما لم يتسامح الناس مع بعضهم، ويتعلم كل واحدٍ منهم، كيف يتسامح مع من يخالفه في الأمور الدينية والسياسية والفلسفية والفكرية, هذه هي الخطوة الأولى في بناء مجتمع سليم. حيث يؤكد ذلك في قوله:(قد أختلف معك في الرأي, ولكني على استعداد لأدافع حتى الموت عن حقك في التعبير عن رأيك). لقد أتبع فولتير رسالته عن التسامح الديني سيلاً من المنشورات التاريخية, فيها الخطب التشهيرية والهجاء والتقريع والموعظة والشعر والحكاية والقصّ والتعليق. وهذه في ظني أعظم حملة من الدعاية الواسعة التي يقوم بها رجل واحد. لم تقم في تاريخ الفلسفة أبداً مثل هذه الدعوة الواضحة والحيوية المتدفقة. لقد حلَّق فولتير بأسلوبه لدرجة تجعل الإنسان لا يشعر بأنه كان يكتب فلسفة. وها هو يقول: لقد تعبت من هؤلاء الناس الذين يحكمون الدول من علياء قصورهم. هؤلاء المشرعون الذين يحكمون العالم ويعجزون عن حكم زوجاتهم أو عائلاتهم, ويتلذذون في تنظيم الكون. إن من المستحيل تسوية هذه المسائل كلها بإيجاد صيغة بسيطة وعامة, أو بتقسيم الناس جميعهم إلى حمقى وخدم من جهة, وحكام وأسياد من جهة أخرى. .                            

معلومات إضافية

العدد رقم:
839