الحب.. كحاجة وجودية!
لعل الواقع اليوم يقدم لدى الجميع أمثلة عديدة عن علاقات في الحب لم يكللها النجاح، بالرغم من أن الآمال التي تعقد لدى الطرفين عند بداية أية علاقة تكون هائلة باتجاه استمرار العلاقة، ولهذا نسعى هنا لتكوين نظرة معرفية أولية كخطوة باتجاه معرفة علمية واضحة، وذلك بهدف إغناء التجربة، وليس الاستغناء عنها، أو التقليل من أهميتها، فالمعرفة نتاج التجربة في نهاية المطاف.
ما بعد المشاعة البدائية!
ما هو جوهري في الإنسان، بالمقارنة مع الحيوان هو: تفلته من المملكة الحيوانية، تفلته من التكيف الغريزي مع الطبيعة، الذي كان في صراع معها في المشاعة البدائية، وانتقاله إلى مرحلة جديدة سِمتها الأساسية وعي ذاته، ووعيه بوحدته وانفصاله، فهو نوع من الجنسين، والآخر نوعه الثاني، الذي بدأ يشعر باغترابه عنه وانفصاله عنه. واقع جديد شعر به الإنسان بسجن لا يطاق، هذا السجن الذي ولّد أعمق حاجة لديه وهي قهر انفصاليته هذه عن طريق التناغم والتفاعل مع الجنس الآخر، ولهذا السبب عبّر بعض الباحثين والمحللين النفسيين عن أن الحب هو حل لمشكلة الوجود الاجتماعي التي هي بنظرهم «العزلة»، أي: عزلة الإنسان عن كل ما حوله معتبرين أنها الأساس المادي للحب.
فرضيات حول الحب..
هل يحتاج الحب لتعلّم؟، عند محاولة الإجابة عن هذا السؤال، تم ظهور عدة فرضيات تبرز منها فرضيتان، الأولى: تجيب بـ نعم، وبذلك فإنه يقتضي معرفة وبذل جهد. في حين أن الفرضية الثانية تقول: أن الحب هو مجرد إحساس باعث على اللذة وأن ممارسته صدفة لا ينالها إلا كل محظوظ.
تقوم الفرضية الثانية، على نقطتين أساسيتين، الأولى: هي اعتقاد أصحابها أن المشكلة تكمن في كيف يمكن أن أكون محبوباً؟، أكثر من كونها في (كيف أحب؟). والمشكلة في هذه النقطة أنها تصوّر الأساسي في الحب هو كيف نشذّب ونرتب أنفسنا لنكون محبوبين من قبل الجنس الآخر، لا كيف نطور أنفسنا وشخصيتنا لكي نكون ناضجين وقادرين على إعطاء الحب للطرف الآخر.
أما النقطة الثانية: كون أن مشكلة الحب هي مشكلة متعلقة بـ(موضوع)، وليست مشكلة متعلقة بـ (مَلكة)، والمقصود: من السهولة أن أحب لكن المشكلة هي في إيجاد المحبوب. وهذا الكلام ليس إلا وهماً يعتقد أصحابه بأنه عندما نجد المحبوبة (الموضوع) سوف يسير كل شيء على ما يرام من تلقاء نفسه. ولو أردنا التشبيه للتبسيط، هذا الوهم يشبه وهم من يريد أن يرسم لوحة جميلة جداً، ولا يعرف موضوعها (أي: عن ماذا يرسم) وينتظر نشوء فكرة جيدة للرسم، ليبدأ بالرسم عوضاً عن تعلّم فنّ الرسم..
الرأسمالية والحب..
قد يبدو الحل بناءً على الفرضية الثانية بنقطتيها وتفاعلهما، هو الذهاب لسوق الشخصية والبحث في بضاعته عن «الزينة» المطلوبة والمرغوبة والرائجة بالنسبة للطرف الآخر، إن كان ذكراً أو أنثى. وهذا ما يأخذنا إلى مفصل جوهري في محاولة فهم أعمق للحب وتطوره، وهو الرأسمالية بوصفها تشكيلة اقتصادية - اجتماعية وحالتها القائمة على شهوة السوق والشراء، والتي عزّزت «موضوع» الحب ضد «وظيفته»، فبالنسبة للرجل في عصر اليوم تعد الفتاة الجذابة الجائزة التي يسعى وراءها، وكذلك الأمر بالنسبة للفتاة. وكلمة «جذاب» يقصد بها مجموعة الصفات التي تنبع من سوق الشخصية، كأن تكون الأنثى شقراء، أو الرجل طويل وعريض المنكبين مثلاً. وبهذه الإحداثيات، (يقع) الشخصان في الحب عندما يشعران أنهما قد وجدا في نفسيهما خير ما هو متاح في السوق، وهذا من الناحية الأولى.
من ناحية أخرى، نجد أن ثقافة الرأسمالية لم تكتفِ بتعزيز «موضوع» الحب ضد «وظيفته»، بل قامت بطمس وظيفته وتشويهها، التشويه الذي تم من خلال إلغاء الاستقطاب بين الجنسين تحت ذريعة المساواة. فالـ «مساواة» الرأسمالية عملت على استئصال الفروق بين الجنسين، وزجّت الجميع في المعامل وعلى الآلات، وبذلك طبقت «المساواة» من خلال السوائية للجنسين في العمل على الآلة. فكما كل السلع متساوية من حيث هي بضاعة في الرأسمالية، أيضاً الناس كلهم متساوون من حيث هم عمال مأجورون، وهذا المقياس لدى الرأسمالية هو ما يدعى المساواة. المشكلة في ذلك هي أنها سبب اختفاء الاستقطاب بين الجنسين، واختفاء الحب المبني عليه أساساً، فالرجال والنساء باتوا سواء وليسوا متساويين كأقطاب متقابلة بل متطابقين إن صح التعبير.
الحب حاجة وجودية..
نعتقد أن الجميع متفق على حالة الانعزال التي تشكلت في مرحلة ما بعد المشاعة البدائية، وبالنظر إلى السلوك البشري في محاولاته لحل هذه الانعزالية، نجد أنه قد عبّر عنها من خلال عدة أمور، كالامتثال للجماعة مثلاً، والذي يعبر بأحد وجوهه عن الحالة التي ينصهر فيها الفرد وشخصيته ضمن الجماعة بشكل نسبي مختلف بين المجتمعات، هرباً من العزلة، لكن يتضح أن لا الامتثال للجماعة ولا التطابق الرأسمالي الصنع، شكلوا الحل للعزلة، ربما شكلوا مسكنات آلام لها، إنما عَبَروا وبقيت المشكلة التي يبحث الجميع عن حل لها حتى اللحظة. هل لا حل للعزلة إلا بالحب؟ إن العلاقات الاجتماعية كلها بين الناس قد تشكل حلاً، لكن جميعها لا تغني عن الحب بوصفه علاقة تعبر عن أعلى مستويات الوحدة والاندماج بين الجنسين. ولذلك ربما نستطيع أن نصفه بالحل الوحيد، ولعل فشل المحاولات السابقة في أن تكون الحل ترجّح ذلك، لكن النقطة الأساسية التي يمكن أن نثبتها الآن، هي أن الحب هو حاجة وجودية اجتماعية شاملة وضرورية.
النفسي والبيولوجي في الحب..
لننتقل لمستوى آخر من الحديث، فبالإضافة لكون الحب حاجة وجودية هناك حاجة بيولوجية وأكثر خصوصية مرتبطة بالحب ولا يمكن فصلها عنه، وجرى التعبير عنها دوماً بأشكال لا ترقى بمعظمها لأن تكون تصوّراً علمياً، وهي الجنس. هناك من يعتقد أن الحب على نحو مطلق هو تعبير عن الغريزة الجنسية، بوصفها توتراً يبحث عن تخفيف له، كالجوع والعطش. في الحقيقة، إن ما سقط من هذه النظرة البسيطة هو الجانب (النفسي- البيولوجي) المركب للجنسية (الذكرية – الأنثوية) بوصفها استقطاباً داخلياً وخارجياً في آن معاً لدى الجنسين، استقطاباً لا تتحقق وحدته الداخلية ما لم تتحقق الوحدة بمعناها العام بين الجنسين، فكما أن لدى الرجل والمرأة من الناحية الفيزيولوجية هرمونات الجنس الآخر، فإنهما مزدوجا الجنسية أيضاً بالمعنى السيكولوجي(النفسي). إن الاستقطاب الجنسي يشكل جزءاً من الاستقطاب العام سابق الذكر، وبذلك سيفضي بالضرورة إلى البحث عن الوحدة جزئياً بشكلها الخاص هذا (أي: الجنسي)، لكن ما لا يمكن تجاهله أن هذه الحاجة هي جزء من كل، ليست الحب كله، وطبيعة الأمور أن الجزء لا يغني عن الكل، ولا يمكن أن يحل محله، وبتعبير أدق إن الوحدة الجزئية هذه لا يمكن تحقيقها داخل كل نفس إلّا في الوحدة (الذكرية – الأنثوية) بوضعها العام المعبر بمجمله عن الحب. ولذلك اختزال الحب والتعبير عنه بوصفه حاجة جنسية محضةً، تولدها الغريزة فقط، هو أمر غير منطقي وغير علمي، فإن كان ذلك، ما الفرق بين الإنسان
والحيوان إذاً؟! إن الرغبة الجنسية ما هي إلا تجلّ من تجليات الحاجة إلى الحب والوحدة بين الذكر والأنثى.
بالتالي ما يمكن أن نثبته حتى الأن، هو أن الحب حالة (نفسية-بيولوجية-اجتماعية) مركبة من هذه الجوانب الأساسية الثلاثة السابقة، ولا يمكن اختزالها بأحد هذه الجوانب لوحده، إنما ما نفتقده ولا نستطيع تحديده بدقة الآن هو نسبة تأثير كل من هذه الجوانب، والصيغة أو التشكيل الذي يربط بينها لتشكيل قانون علمي واضح. لابد أن القادم في المعرفة الإنسانية سيحسم وسيعطي التوصيف الدقيق، ونعتقد أن هذا مرهون بتغير علاقات الملكية الحالية، وبالتطور العلمي المرهون بتغيرها (علاقات الملكية)، لأن علاقات الملكية الحالية لا تتيح الفرصة الملائمة لمعرفة حقيقية بهذا الخصوص.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 828