فيغوتسكي.. هل نعيد النظر في تربيتنا؟

فيغوتسكي.. هل نعيد النظر في تربيتنا؟

تسيطر على الفكر اليوم الأحكام المسبقة حول إمكانيات واتجاهات التطور الفردي والاجتماعي لأفراد بأعينهم أو لأمم بعينها، والتي تشترك بها مثلاً، بشكل أو بآخر، البروباغاندات الاستعمارية، والاستشراقية، والعنصرية، والأورومركزية. وسنحاول هنا الإضاءة على نظرية تطور الشخصية الفردية والاجتماعية من بوابة علم التربية وعلم النفس الاجتماعي، بلمحة عن الأفكار المفتاحية التي طورها في هذا السياق عالم النفس والتربية السوفييتي ليف فيغوتسكي (1896 – 1934).

تنطلق نظرية فيغوتسكي التربوية من فهم عملية تكوّن شخصية الفرد على أنها عملية تطور لِذاتٍ تمر بسلسلة متتالية ومتصاعدة من  المآزق وحلها. والمأزق هو: تناقض بين الحاجات والمتطلبات التي تنتصب أمام الفرد، وبين قدرات وإمكانيات هذا الفرد على تلبيتها أو تحقيقها. مثلاً: في مرحلة ما من تطور حواس الطفل، باعتبارها نوافذه على العالم، تتولد لديه الرغبة والفضول باكتشاف هذا المحيط المتزايد تدريجياً في انقشاعه أمام مدارك الطفل، وتبرز لديه الحاجة للتنقل والسفر أبعد من جغرافيا حضن الأم، وتقليد الأكبر سناً وهم يمشون. هنا يصطدم الطفل بمأزق التناقض بين هدفه بالتنقل وقدرته على تحقيق هذا الهدف. ولهذا المأزق جوانبه المتعلقة بالضعف النسبي لعضلات الطفل: وعدم امتلاكه التنسيق العصبي الحركي الملائم لأداء الحركة، إضافة لمواجهته عوائق مختلفة تمنعه عن ذلك، فيحاول الطفل أن يجد حلولاً إبداعية للمشكلة الجديدة، فيتطور لديه ما اصطلح فيغوتسكي على تسميته بـ «التشكيلات المستحدثة»، كأن يطور تقنيات الزحف مثلاً.

دور التربية

شدّد فيغوتسكي على أهمية التوجيه كمحرك للتكوّن الفردي. وبخلاف بياجيه ومدرسته التي ترى مهمة التوجيه تقتصر على الرقابة و«المتابعة» عن كثب لمسار «طبيعي» لتكوّن الفرد، رأى فيغوتسكي أنّ التوجيه يجب أن يكون أكثر تدخلاً وإيجابية، عليه أن «يقود» التطور. ودعم فيغوتسكي نظريته بأدلة تجريبية ميدانية.

لقد لاحظ بأنه يوجد فرق بين الدرجة التي يمكن أن يصل إليها الطفل في حلّ مشكلة ما بمفرده، وبين قدرته على إنجاز المهمة بالتعاون مع الآخرين. وصف فيغوتسكي هذا التوتّر بأنه «نطاق التطور القريب»، الذي عرّفه بأنه «المسافة بين مستوى التطور القائم كواقع حالي كما يحدده حلّ المشاكل بشكل مستقل، وبين مستوى التطور الممكن كما يحدده حلّ المشاكل بإرشاد من البالغين، أو بالتعاون مع أقران أكثر مقدرة». أي أنّ هنالك حدّاً أدنى لهذا النطاق، إذا بقي الكائن/الكيان تحته، رغم وجود إمكانية حقيقية لتجاوزه، فإنه يتخلف ولا يتطور (كحالة طالب ذكي ولكن مهمل وغير مجد في دراسته فيكون تحصيله العلمي ضعيفاً). بالمقابل إذا تمّ دفعه عبر توجيه غير ملائم، ليتجاوز الحدّ الأعلى لهذا النطاق في حالة لا يكون فيها مستعداً لذلك، فإنه أيضاً يجهض التطور، ويحمّل الكائن ما لا طاقة له به (كأن يتمّ تزويج غير الناضجين لتحمل أعباء الزواج، كفتاة قاصرة أو شاب قاصر). وبدلاً من هذين التطرفين، الذي يكون التوجيه في أحدهما تابعاً متخلفاً ومحافظاً يسير في «ذيل» الحركة (كمتطرف يميني أو يعاني من «الجمود»)، وفي الآخر مغامراً وطوباوياً يجري أمامها بعيداً جداً (كمتطرف يساري أو يعاني من «العدمية»)، فإنّه يقترح أن يكون التوجيه قائداً متقدماً على حالة التطور الراهنة بخطوة واحدة، بحيث يحفزه ولا يعرقله.

نقد منظومة التعليم

إحدى النتائج العملية التي يمكن للمرء أن يستقيها من نظرية فيغوتسكي التربوية هي: تطوير نقد علمي للسياسات التربوية والتعليمية الرأسمالية السائدة، ليس فقط في بلدان الأطراف، بل وحتى المركز. ولا يتسع المجال هنا لمناقشة نماذج مدارس المتفوقين، أو فرز الطلاب بين صفوف «شاطرين»، وصفوف «كسالى». ولكن نكتفي بالإشارة أنه إذا استفدنا من نظرية فيغوتسكي، سنجد على الأقل أنّ هذا الفصل بين متفوقين وعاديين، الذي ربما يطوّر فعلاً قدرات شريحة من الطلاب، لكن عدم اختلاط الصنفين يحرم الأغلبية (العاديين) من عامل المنافسة والمثال المحفز للعاديين على تجاوز مأزقهم التطوري، هذا فضلاً عن أنه من وجهة نظر ديالكتيكية فإنّ «المتفوقين» أنفسهم بالتصنيف الحالي على أساس المعايير السائدة، ربما يكونون «متخلفين» و«كسالى» من جوانب أخرى اجتماعية ونفسية وبدنية ..إلخ.. أفلا يضر هذا الفصل إذاً حتى بتطور هذه «الصفوة» بحرمانهم من إمكانية حل مأزقهم عبر التعلم والتنافس مع أقرانهم الأرقى منهم من هذه الجوانب؟ كما أن ثمة تساؤلاً إحصائياً هنا، لكي تجوز علمياً المقارنة بين التحصيل في مدارس المتفوقين ومدارس العاديين: ألا ينبغي توفير ظروف «دعم» وتمويل متماثلة لكليهما؟ هل تبني هكذا تربية مجتمعاً سليماً؟ أم تعزز المجتمع المُهندَس على مقاييس ومصالح الطبقة البرجوازية الضيقة الأفق؟

التربية الثورية

لا شك أنّ نظرية فيغوتسكي حول «نطاق التطور القريب» تحمل تأثراً كبيراً وترتبط بشكل وثيق بالفهم الديالكتيكي للتطور عموماً وفق المنهج الماركسي، وإذا تمّ توسيعها على نطاق التطور الاجتماعي والسياسي، لا يمكن إلا أن نحصل على نظير للمفاهيم التربوية-السياسية-التنظيمية لدى لينين فيما يخص «توجيه» الجماهير وقيادتها، وتكتيك النضال، الذي هو أيضاً عملية تربوية (لا توجد قيادة حقيقية ما لم تتعلم من الجماهير أيضاً). من يقارن بين نظريات لينين ضدّ التطرف اليساري واليميني – في «مرض اليسارية الطفولي» و «ما العمل» مثلاً، ونظرية فيغوتسكي عن «نطاق التطور القريب» يلاحظ التشابه المنهجي العام ولو أن كلاً منهما طبق نظريته على موضوع مختلف. 

ما دام الرأسماليون هم من يربوننا فسنظل نحمل أمراض تربيتهم. آن الأوان لزمن التربية الجديدة، فالمسألة تتعلق بالفرق بين مجتمع مريض ومجتمع سليم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
809