سياسات (دمج الأقليات)... المهاجرون ضمناً
تحولت مشكلة المهاجرين إلى بلدان (العالم الأول)، (من وجهة نظر الإعلام الغربي على الأقل، بالإضافة إلى الأحزاب اليمينية بطبيعة الحال)، خلال العقدين الماضيين، وحتى قبل اللجوء السوري، إلى المشكلة رقم 1 في الخطاب السياسي الغربي. حتى أن الإجابة عن سؤال الهجرة باتت بنداً أساسياً، لا يمكن القفز فوقه في البرنامج الانتخابي، ليس للمناصب الرئاسية والبرلمانية فحسب، بل وحتى لأصغر المناصب البلدية شأناً...
وقد أصبح من الواضح أن هنالك ما يشبه اتجاهاً جارفاً في الغرب، نحو إرجاع كل ما يجري من تغيرات عاصفة إلى صعود موجة قومية جديدة، يحفزها عاملان متداخلان (المهاجرون، والإسلاميون منهم خاصة).
وإذا كان الخطاب اليميني العنصري تجاه المهاجرين واضحاً ووقحاً، فإنّ طروحات ما يسمى بـ(اليسار)، وخاصةً (اليسار الأكاديمي)، ليست بأحسن حالاً! بل إنّ منطق تعامل هذا الأخير مع المسألة (وإذ تغلفه كل من الشعارات الإنسانوية العامة واللغة العلمية التخصصية)، لأشد خطورةً وفتكاً من شعارات اليمين السافرة... وهو ما سنسعى لمقاربته في هذه المادة.
دراسات الهجرة:
أطلقت جامعة أكسفورد عام 2013 المجلة البحثية المحكّمة، دراسات الهجرة migration studies، لتضاف إلى مجموعة مجلات بحثية في المجال نفسه، جرى إطلاقها خلال العقدين الماضيين.
وقد صدرت هذه المجلات كإحدى نتاجات نشوء أقسام جديدة، ضمن أهم الجامعات الأوروبية والأميركية خلال العقدين الماضيين مختصة بدراسات الهجرة، والتي تعتبر ثمرة تلاقح مجموعة من المجالات البحثية على رأسها: (الدراسات الثقافية- cultural studies)، و(دراسات ما بعد الاستعمار- postcolonial studies).
أي أنّ مجالاً بحثياً واسعاً قد جرى افتتاحه وتخصيص الأموال الطائلة له، (على شرف المهاجرين) وبغرض (دمجهم). وليس اكتشافاً مهماً، القول: إنّ صعود (مشكلة المهاجرين) إلى السطح خلال العقدين الماضيين نتاجٌ ودلالةٌ على مجموعة مسائل أهمها:
تعبيرٌ عن أزمة اقتصادية عميقة تمر بها المراكز الغربية بأسرها، ينحدر بموجبها مستوى معيشة الغالبية العظمى من السكان، ولكنْ تظهر آثار ذلك الانحدار بشكل سريع وكارثي بين الفئات الأكثر تهميشاً، والتي يشكل المهاجرون نسبةً عاليةً منها، ما يحولهم إلى (خطر اجتماعي) وإلى (مشكلة رقم 1) بالنسبة للأنظمة.
إنّ طريقة توزيع الدخل في الغرب، التي تظلم المهاجرين (حتى أولئك الذين من الجيل الثالث والرابع) أكثر من ظلمها لـ(السكان الأصليين)، تعبّر هي الأخرى عن أنّ الرأسمالية عجزت عن تقديم حلٍ حقيقيٍ لـ(المسألة القومية) بمعناها الثقافي والسياسي الواسع الذي يتجاوز مشكلات الانتماء القومي، إلى مختلف مشكلات الانتماء الثقافي والإثني.
إنّ الأزمة نفسها، إذ تعزز نهب المراكز الغربية الداخلي والخارجي، مشددة علاقة النهب الاقتصادي بين المركز والمحيط، وخالقة مزيداً من الفقر والأزمات في المركز والمحيط على السواء، فإنها تدفع بدورها إلى مزيد من الهجرة، وضمناً اللجوء (وهو التعبير المستخدم لتوصيف الهجرة القسرية في ظروف الحرب والكوارث). وبذلك فإنّ المشكلة تزداد تعقيداً، مؤدية إلى نشوء حلقة مفرغة، تزداد كارثيةً مع كل دورة جديدة ضمنها.
إنّ التعدادات السابقة، على أهميتها ووضوحها وغيابها عن الإعلام الغربي، ليست أخطر ما في المسألة! إنّ الخطير حقاً هو تصنيع أسباب وهمية، أو تقديم أسباب ثانوية محل الأساسية، لتشويه الوعي ليس لدى المهاجرين فحسب، بل ولدى مجمل الطبقات المظلومة غرباً وشرقاً، بغرض دفعها إلى أشكال من (النضال الوهمي) الذي يصب في نهاية المطاف بالضد تماماً من مصالحها العميقة... ذلكم بالضبط، هو شكل الوعي الذي تصنعه سياسة (دمج الأقليات) التي تنتجها دراسات الهجرة بالتضافر مع دراسات البوست كولونيال والدراسات الثقافية...
من هي الأقليات؟
إذا كانت كلمة (أقلية) قد استخدمت طويلاً للتعبير عن الأقلية الدينية أو الطائفية أو المذهبية (بمقابل الأكثرية الدينية/ الطائفية/ المذهبية)، في أوروبا وفي منطقتنا على السواء، فإن تطويرين كبيرين قد أدخلا على هذه الكلمة، معانٍ وأبعاداً أوسع وأعقد، التطور الأول: هو ظهور الدولة التمثيلية مع الثورة الفرنسية وما تلاها؛ حيث أرسي حق الاقتراع العام الذي ينتج أكثريةً انتخابيةً بمقابل أقلية أو أقليات. والتطور الثاني هو الذي حدث خلال القرن الماضي وبشكل خاص منذ ما بعد (ثورة الطلاب) في فرنسا 1968. منذ ذلك الحين بدأ التنظير لتحركات سياسية واحتجاجية من خارج (النطاق الاقتصادي الكلاسيكي)، أي من خارج السياق الطبقي، تحركات يكون الأساس فيها مظلومية أو تطلعات فئة ما من فئات المجتمع لها استقلالها النسبي عن فئاته الأخرى، كأن نقول: تحركات (السود، المهاجرين، النساء والنسوية، المثليون، مناهضو العولمة، أنصار حق الإجهاض، أنصار البيئة، أنصار الحيوان... وإلخ).
تضافر التنوع الكبير لهذه الحركات و«الانتماءات»، التنوع الذي لم يكف عن التوالد والانقسام صوب تنوعات أكثر عدداً وأصغر حجماً، مع نشاط الجمعيات غير الحكومية NGOs التي بدأت بالتخصص وفقاً لهذا (التنوع)، وفي أحيان أخرى كانت هذه الجمعيات وراء خلق المزيد منه... ومع اتساع التنظير لفكرة (تعدد هويات الفرد) تأسيساً على (الدراسات الثقافية).
ما سبق كله جرى صبّه في نهاية المطاف في (دراسات الهجرة)، التي خرجت من هذا المزيج (المتجانس في عمقه) بنتائج يمكن تكثيفها بنقطتين أساسيتين:
المهاجرون هم (أقلية) ضمن المجتمعات التي هاجروا إليها.
هذه (الأقلية) لها هويتها/ هوياتها الثقافية الخاصة التي تشكل العائق الأساسي أمام (الاندماج) مع المجتمعات التي هاجرت إليها.
ولكن دعونا نقوم بتجربة صغيرة، فلنبدل كلمة (المهاجرين) في التعداد الأول بكلمة (السود)، ثم بكلمة (الملونين) ثم (المثليين)... وإلخ. سنجد أنّ التعدادين سيحافظان على معنييهما.
بكلام آخر، فإنّ التعامل مع هذه (الفئات) ينطلق أساساً من عملية تذريرها، و(أقللتها minoritization): أي تأطيرها ضمن حدود انتماءات معينة تحولها إلى (أقليات).
ومرةً أخرى، واستناداً إلى (المبدأ الديمقراطي) القائل بالأكثرية والأقلية العددية الانتخابية، فإنّ حساباً بسيطاً لمجموع هذه (الأقليات) سيظهر أنها تشكل معاً الأكثرية العددية الحقيقية، ولكن ليست الانتخابية!
الاندماج
عند هذا الحد يمكن الوصول إلى المقصود بسياسة (الدمج):
أولاً: كلمة الاندماج تستخدم بشكل مقصود بديلاً عن الانتماء، وتعني أنّ أولئك المطلوب اندماجهم عليهم أن يتغيروا هم، بما يسمح باندماجهم مع مجتمعات ترفض أن تغير شيئاً مما هي عليه.
ثانياً: ما ورد في (أولاً) لا يستقيم إلا ضمن الفكرة التالية: ليس المقصود بـ(مجتمعات ترفض أن تغير شيئاً مما هي عليه)، أي أنها ترفض تغيير ثقافتها، فذلك شعار خادع ليس إلا –وحتى لو صدق فهو شعار عنصري كما سنبين في مكان لاحق-. المقصود هو أنّ المجتمعات الأوروبية باتت مختزلةً في (الأكثرية الانتخابية) وهذه الأخيرة ليست سوى رمزٍ المقصود به: (السلطة السياسية) التي تعبر بدورها عن (السلطة الاقتصادية).
بكلام آخر، فإنّ عملية (الدمج) المفروضة على المهاجرين وعلى المجتمع كله تقريباً، (المجتمع المذرر والمفتت إلى عدد لا نهائي من الهويات والنزعات والانتماءات و»الأقليات»)، هي الشيفرة التي تختفي تحتها سلطة الأقلية الاقتصادية الحاكمة المتلطية وراء (الأكثرية الانتخابية).
(اليسار الجديد- يسار الأقليات)
ضمن التحركات الموبوءة لما يسمى (الاشتراكية الدولية) و(الشيوعية الأوروبية) و(اليسار الجديد)، والتي ترى في اتجاهات (البوست كولونيال، والدراسات الثقافية، ودراسات الهجرة) اتجاهات يسارية، هنالك ميل عام لـ(رص صفوف الأقليات) كوسيلة لتحقيق أهدافها ورفع المظالم عنها...
إنّ هذا المنطق السخيف المبني على فكرة (اللوبيات، مجموعات الضغط)، وعدا عن كونه منطقاً إصلاحياً وبعيداً كل البعد عن المنطق الثوري، فإنّه في وقتنا الراهن لم يعد إصلاحياً حتى، بل بات رجعياً على طول الخط؛ ذلك أنّ الاعتراف بهذه (الهويات- التصنيفات- الانتماءات) كمنصة للنضال الاجتماعي، يعني أولاً: تكريسها، أي تكريس عملية تذرير المجتمع وتفتيته. ويعني ثانياً: إزاحة منصة النضال الأساسية والمركزية، أي المنصة الطبقية للنضال إلى الخلف، أو في أحسن الأحوال إلى واحدة من المنصات مثلها مثل منصة نضال المطالبين بحق الإجهاض مثلاً!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 808