مجلس عزاء.. ونواح نيوليبرالي..
يكاد المشهد الإعلامي – الثقافي العالمي أن يتحول إلى دار عزاء، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ثمة ندّابات وندّابون، وفرق القوّالين من ساسة، وحكومات، ومعارضات، إعلاميين، وكتاب، وممثلين، فضائيات، وإذاعات، وصحف.. الكل يتحسر، الكل يتألم، فالحداثة في خطر، والتمدن في خطر.. «اليمين» يصعد في الغرب، والديمقراطية مهددة، لا بد من الاستنفار إذاً، لا بد من فعل شيء ما، ولا شيء طبعاً في اليد سوى التمسك بالنيوليبرالية..قسموا العالم إلى فسطاطين، الفسطاط النيوليبرالي، وفسطاط اليمين، وما على عباد الله سوى أن يتعايشوا مع نجاسة دار البغاء النيوليبرالي، وإلا، فهم يمينيون، أو إرهابيون، أو شموليون، أو إيديولوجيون.. في رصيد هؤلاء ما يكفي من النعوت لأبلسة الخصوم، وفي أقلامهم ما يكفي من القذارة للتشكيك حتى بطهارة بيت المقدس.
بعد أن وصل الخيار النيوليبرالي المهيمن في العالم خلال العقدين السابقين إلى طريق مسدود، وأخذ العالم معه إلى حافة الهاوية، في الاقتصاد: سادت النزعة الشايلوكية الربوية، وفي السياسة الميكيافيلية كانت العنوان الأبرز، وفي الإعلام والثقافة، حيث الغوبلزية هي التوصيف الوحيد المناسب، وبالأدوات الدموية: حيث داعش، والصليب المعقوف.. وبعد الانحطاط الذي يتجلى في كل نشرة أنباء، وكل تقرير إعلامي، وفي كل تصريح رسمي، يحاول حراس الليبرالية وكهنة العالم القديم، إرهاب العالم بصعود اليمين، وكأن هذا اليمين المزعوم ليس ابناً شرعياً للنيوليبرالية، وكأن هذا المطر الحامضي ليس من تلك الغيمة السوداء، وكأن ما يسمونه الشعبوية واليمين لم ينمُ ويترعرع في أحشاء النيوليبرالية نفسها، ورداً عليها.. أليس لكل فعل رد فعل، يساويه في الشدة ويعكسه في الاتجاه؟
هذا التنميط النيوليبرالي للوعي البشري، هذه الثنائية الوهمية، تعتبر اليوم الخريطة الجينية، والمرجع المقدس لكل الدفق الإعلامي، الذي يتحفنا به إعلام التفاهة، أليست التفاهة معادلاً وحيداً لهذه الهيستريا المنظمة تجاه كل من يحاول ألا يطأطئ رأسه أمام رياح النيوليبرالية الصفراء؟
تدرك أحصنة النيوليبرالية في الميدان الثقافي – الإعلامي، أكثر من غيرها مأزق الخيار النيوليبرالي، فهي عادة قرون استشعار بيوتات المال، والمصارف والشركات في تحسس الخطر، وبالتالي تراها أكثر الناس ولولة، وندباً، وبكاءً في مجلس العزاء .. وإكرام الميت دفنه أيها السادة!
النيوليبرالية، هي قناع، واسم حركي لتشكيلة اقتصادية – اجتماعية، في أكثر مراحلها تفسخاً، واسمها الصريح هو: الرأسمالية، فما أفلس ويفلس هو الخيار الرأسمالي بتجربته التاريخية كلها، وما ردود الأفعال «اليمينية» التي يدعونا حاخامات النيوليبرالية لمواجهتها، إلا رد فعل على الرأسمالية نفسها، بما تعنيه من تدمير العالم المادي والروحي للإنسان، والعبث بالطبيعة، وتزوير التاريخ، ومحاولة التحكم بالمستقبل، وجشع واستغلال، وفردانية، أي تمسيخ الإنسان، وتحويله إلى مجرد مستهلك، وبضاعة في عصر النخاسة المعولم، إلى رقم في نشرات الأنباء، إلى مهاجر أو لاجئ على أرصفة دول النهب، إلى ميليشيوي في إحدى الشركات الأمنية...
أمنا الأرض حُبلى، وقطار التاريخ لم يتوقف في محطة النيوليبرالية، ولن يتوقف عند نسختها الأخرى « اليمين» فلسنا معنيين بما يلقيه علينا المهرجون النيوليبرالييون من مواعظ، ولسنا معنيين ببلاغة وعّاظ السلاطين، أما، ما تصنف على الـ «يمين» حسب تصنيفات كتبة النيوليبرالية، هو مجرد آلام مخاض ولادة الجديد، فالليبرالية أطاحت حتى بتلك النقاط المضيئة من تاريخ التشكيلة الرأسمالية، وأوصلتها إلى الحضيض السياسي والثقافي والاقتصادي...
الأكثر دموية من القاتل، هو المحامي الذي يبرر سفك الدم، والأكثر سفالة من نيولبراليي المركز، هم صبيان النيوليبرالية في الشرق، الذي يحاولون تسويق بضاعة منتهية الصلاحية، ولم تعد صالحة للاستهلاك الانساني، يختلف أصحابها عليها، وحولها، فيتحول هؤلاء الصبية إلى «وشيشة» لترويجها بكل ما أوتو من قدرة على الترويج، وبكل ما يتيسر لهم من منابر إعلامية، يؤمنها ريع نفط وغاز الحداثة وما بعد الحداثة والتمدن المتدفق من صحراء الربع الخالي، المتزاوج مع عفونة كهوف التاريخ، ومحاولة إغراء الناس بالدين والدنيا معاً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 803