آليات المقاومة في ظل التكنولوجيا
يتقدم التاريخ الإنساني، وبتقدمه تتطور آليات المقاومة، وتلك علاقة لا يطالها الجدل من بين أيديها ولا من خلفها، فمفهوم المقاومة لاصق التاريخ الإنساني كظلّه، بل وتمدد ذلك الظل في التاريخ المعاصر بما سببته فترة التنوير الأوروبية التي جاءت بعدها الحاجة لضمان تنوير ما يتّقد على الإنسان كمادة، في امتداد لتشيؤ الإنسان الحديث باسم الحداثة.
ذلك التطور يتوازى مع ما يتضمنه المحتوى النوعي لآليات المقاومة تلك، فيما يعرف بـ(Qualitative Classifications). وحتى وقت قريب كان الفارق الكمّي والنوعي في تلك الآليات لمصلحة المستعمر -بكل ما تمثله فكرة الاستعمار من صلابة ومن سيولة- ناهيكم عن احتمال سيطرة المستعمر على أولوية تحديد آليات الاستعمار -وبالتالي المقاومة- بجانب تحديدات خطابية أخرى قد تشمل الدين والثقافة والعرق وغيرها.
ولعل اللحظة التاريخية الراهنة، تشهد انقلاباً راديكالياً في التكنولوجيا التي بدأت بداعي تسهيل الحياة الإنسانية -عموماً- وانتهى بها الأمر إلى وسيلة سيطرة حداثية، ينتهي بها عصر الإنسان وتمثيلاته -بمنطق الفيلسوف الفرنسي فوكو- وها هي الآن تحسم العلاقة مع الطرف الأقوى المسيطر حضارياً بأن أصبحت تعبيرياً أيضاً في خدمة المقهور والمسيطر عليه، بداية من الثورة الروسية التي كان لسكك الحديد فيها دور الوسيط بالمنطق الثوري، كانت الطباعة في فرنسا، والإنترنت والشبكات الاجتماعية في الحراك العربي الثوري.
ولأن المتن لا يسمح لنا بالخوض في تشعّبات مفهوم «تكنولوجيا المقاومة» تقنياً في العالمين العربي والإسلامي، وعلاقة ذلك استراتيجياً بمؤسسات الدولة، فالإشارة في المقال التالي ستكون لـ«تكنولوجيا المقاومة» من ناحية أداتية محكومة بفترة زمنية قصيرة نوعاً إذا ما قورنت بالتأسيس المؤسسي والاستراتيجي لمفهوم «محو الأمية التكنولوجية» وكيفية توظيف ذلك في السياسات العامة وغيرها، وهو ما يمكن ملاحظته في المسافة بين المقاومة التكنولوجية لمجموعات ثورية شبابية عربية في فضاء الإنترنت وشبكاته الاجتماعية المتعددة، وما صاحب ذلك من تعدد في المسميات، وإن اختلف؛ تشابه -حد التطابق- في كونها تجمعات أفقية شبابية، وليست هرمية، يغلب عليها فكرة الانطلاق من المشتركات المقاومة، وليس الأيديولوجيات.
محاور تكنولوجيا المقاومة:
- وإن انطلقت أداتياً منفصلة إلا أنها لا بد أن تصب في مشتركات المقاومة، بإضفاء الفاعلية والتأثير في أدوات المقاومة الموازية، وإعادة صب الزخم فيها، إلا أن ذلك لا يعني انفصال أدوات المقاومة الموازية والتاريخي منها خصوصاً عن ديناميكية التكنولوجيا الحديثة ولا استحواذها.
- تحليل وتفكيك النموذج التكنولوجي للمقاومة من ناحية عليمة وتطبيقية، وخلق تعدد وسائطي أو أدوات تطويرية (Evolution Instruments) مثال ذلك المجلات الإلكترونية، والتصوير وفنون الغرافيك، والموسيقا والفن وغيره، وهذا يخلق فضاءً ثقافياً، يكسر ما تسعى إليه عملية أدلجة المعرفة التي جعلت للغرب القدرة على تحديد مقاييس مطلقة والتحكم في طرائق قياس الأمور والمعايير. ما يعني وضع شكل من أشكال الاستراتيجيات التدرجية في تفعيل واستخدام المقاومة وأساليبها المتنوعة لأغراض المقاومة، والتي تتطور في شكلها الذي يعني بدوره «تدرج عملية حيازة التكنولوجيا» (Gradual Acquisition Technology).
- تداول مفاهيم ومفردات التكنولوجيا كآلية عملية وخيار استراتيجي في تخطيط هياكل المقاومة، لمصلحة تفعيل دور البنى المجتمعية، بمراكزها الفردانية الجامعة، على حساب البنى الحزبية والتنظيمية ذات الأسوار الأيديولوجية المؤسسية.
- تسخير التكنولوجيا لخدمة أهداف المقاومة وقيمها الجامعة ينقل بالتحديد الجغرافي التقليدي نطاق المقاومة إلى طور اللاتحديد والانتشار، وبخاصة بعدما تزايدت الأهمية التكنولوجية بجوانبها المتنوعة في البناءين الاقتصادي والسياسي لدول العالم في مختلف تصنيفاتها، صناعية، نامية، كبرى، صغرى، وهنا تتحول «القرية الصغيرة» من نموذج يجب عولمته إلى نماذج تتلافح وتتلاقى.
- التكنولوجيا لا تعد في ذاتها إلا إجراءً لا يجب أن ينفصل عن القيمة التي تحققها -ويجب- المقاومة باعتبارها عملية تحررية تستهدف الإنسان أولاً وأخيراً، لذا على التكنولوجيا دوماً أن تعبر عن الفكرة كقيمة معبرة جمعية، وليست فئوية أو حزبية، لأنها بذلك تضمن غلبة الإجراء على القيمة فتنهار فاعليتها.
- قرار استخدام التكنولوجيا في المقاومة يقدم خيارات استراتيجية، ففي حين يعمل ذلك على الانتقال بالمقاومة إلى مرحلة «اللاعنف»، باعتبارها امتداداً للمخزون المعنوي في الحروب والمواجهات، وبالتالي فهي تعد تصعيداً وليست تسليحاً (التسليح مواجهة سلاح بسلاح، إنما التصعيد يقوم على تعطيل سلاح العدو، والمقصود هنا هو الخطاب السياسي وتكنولوجيا المعرفة)، إلا أنه في الوقت نفسه يمكّن من توظيف أفضل واستقراء استراتيجي أفضل لتطوير عمليات المقاومة المسلحة.
في النهاية -لتلك البداية المختصرة- يظل الفارق بين المقاومة والاحتلال/الاستعمار/الدكتاتورية، فارقاً قيمياً/ معنوياً، لا يستند إلى الحسم اللوجيستي/ الردع، بين الطرفين، والذي يميل فيه ذلك الأخير لمصلحة المستعمر والمحتل والسلطة القمعية في أغلب مفاصل التاريخ. فالقيمة المعنوية الجامعة للمُحتل والمُسْتَعمَر والمقهور، أكبر من تلك اللوجيستية الرادعة لغريمه.
المقاومة هي إثبات وجود وموقف تعبيري تختلف وسائطه، فيه من الدلالة الكافية على حسم الفكرة في مقابل المادة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 543