أوراق خريفية القدر

جمعتني سهرة مع عدد من الأصدقاء القدامى ينتمي كل منا إلى منبتٍ فكري مختلف عن الآخر، ولا يجمعنا سوى تاريخ الطفولة الشقية التي عشناها معاً. كنا نتجاذب أطراف الحديث عن الأقدار التي صنعت منا المحامي والدهان والمهندس وسائق التكسي والطبيب والخضرجي... وغير ذلك من المهن. وتشعّب الحديث عن القدر حتى انقسمنا إلى فريقين: أحدهما يقول بأن الإنسان يصنع مستقبله بالتصميم والإرادة والعمل الدؤوب،

ولا دخل للظروف الموضوعية والبيئة والحظ في تقرير المصير. والآخر يقول بأن ما كُتب على الجبين يجب أن تشوفه العين، والمقدّر لا مهرب منه إطلاقاً، وأن الآية القرآنية الكريمة تقول: (وقل ما يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) وغير ذلك من أمثلة تؤيّد مزاعم هذا الفريق. وانبرى أنصار هذا الرأي يتحفنا بوقائع وأحداث منها ما هو أسطوري، ومنها ما هو واقعي حصل بمحض الصدفة. إلى أن وصل الدور إلى أحد الأصدقاء المشهور تاريخياً بمبالغاته في ذكر الوقائع، والتي يضفي عليها من عندياته ما تيسّر له من توابل وبهارات، فهو يصنع (من الحبة قبّة ومن الإبرة مسلّة..) مما يجعله يبزّ أشهر الصيادين المعروفين بخيالاتهم الخصيبة والمثيرة، فقال بعد أن تنحنح وحاصَ ولاصَ:
يا جماعة تعرفونني منذ الصغر بأنني أمقتُ المنجّمين والمشعوذين والدجالين، ولا أثق بتنبؤاتهم الخرافية أبداً، إلا أنني ومنذ ما يقارب العامين تعرّضتُ لحادثة نسفتْ منظومة القناعات التي كنت أحملها من جذورها، وجعلتني أعيد النظر بكل معتقداتي؛ تصوروا كنتُ عائداً إلى بيتي في أحد المساءات بعد انتهاء مباراة الطرنيب التي نتسلى بها يومياً، وإذ بشيخٍ جليل يستوقفني طالباً مني أن أفتح له كفي ليتنبأ بمستقبلي، اعتذرتُ منه مبيناً عدم قناعتي بهذه الطرق الاحتيالية في ابتزاز الناس ولهط ما تحويه جيوبهم، وختمتُ قولي بأنني مستعدّ لمساعدته مالياً إذا كان محتاجاً. فما كان منه إلا أن أجاب بأنه لا يأخذ مالاً وأنه سيحدّثني عن طريقة موتي هكذا لوجه الله تعالى.

الحقيقة يا شباب أعجبتني فكرة معرفة الطريقة التي سأموت بها. جلستُ والشيخ على قارعة الطريق تحت لمبة عمود الكهرباء وبدأ يقرأ لي كفّي قائلاً:
-يا بنيّ! إن ألدّ أعداءك في الحياة هي التكنولوجيا... وللأسف فإنك ستودّع الحياة وتلتحق بأجدادك بسبب حدث مأساوي؛ إما بحادث سير مروّع، أو بالصعق بالكهرباء، أو بانفجار طائرة تقلّك، أو... وأرجّح أنك ستلقى حتفك بالصعق الكهربائي.. وأنا آسف مرة أخرى إذ أقول لك أن نهايتك باتت قريبة، والتي ستكون خلال سنة على الأكثر..
الحقيقة يا شباب لا أدري لمَ لعب الفأر بعبّي، وبصدق توجّستُ من كلامه وأخذته على محمل الجدّ! قلت بنفسي إن الحيطة والحذر واجبان، ثم إنني لن أخسر شيئاً، سأقصد قريتي النائية والتي ما زالت تحتفظ بطابعها البدائي منذ مئات السنين؛ إذ لا كهرباء فيها ولا هاتف ولا مواصلات.. وبالتالي سأستغني كلياً عن التكنولوجيا. وبالفعل خلال يومين كنتُ في القرية بعد أن أخذتُ من الشركة التي أعمل لديها إجازة بلا راتب لمدة عام. وكما تعلمون فأنا غير متزوج لا خلفي ولا قدّامي. قلتُ في نفسي كلها سنة وأعود بعدها إلى المدينة. أصلاً البعد عن الضجيج والضوضاء يريح الأعصاب ويشرح الصدر. بلا طول سيرة أقمتُ في القرية في بيت أهلي الطيني، وقد ساعدني الجيران في ترميمه وأصبح معقولاً ومناسباً للسكن. وخلال عدة أيام تأقلمتُ مع حياة سكانها البسطاء وبدأتُ أمارس عاداتهم وهواياتهم؛ أتسلى بصلي الدبق في الغابة، أتناول خبز التنور والبيض البلدي والأعشاب البرية وزيت الخريج، أنام باكراً وأستيقظ باكراً،أمضي أغلب أوقاتي بالتجوّل في ربوع ضيعتي الجميلة أتمتع بهوائها النظيف وطبيعتها الخلابة. بلا طول سيرة بقيت على هذه الحالة حتى اليوم الأخير من العام المفترض أنه آخر يوم في عمري. لا أخفيكم سراً يا جماعة بأنني خفتُ كثيراً في ذلك اليوم، وقررت ألا أغادر البيت مطلقاً وألا أتعامل مع أي شيء يمتّ بصلة إلى ألف باء الحضارة. بقيت مسمّراً في الفراش حتى العصر، ضجرتُ كثيراً وقلت لنفسي اذهبْ يا ولد إلى النهر وتمتّعْ بمنظر جريانه واغمرْ قدميك في مائه البارد ليطرد حرارة الصيف القائظ.. وبالفعل يا شباب ذهبتُ إلى النهر وجلستُ على ضفافه وخلعتُ حذائي ووضعتُ قدميّ في الماء منتعشاً ببرودته.. وما هي إلا لحظات حتى شعرتُ بصعقٍ شديد يمتدّ من القدمين وحتى كافة أنحاء جسدي وبدأ جسمي ينتفض.. وبينما أنا كذلك لمحتُ أحد صيادي السمك وبيده أشرطة كهربائية يقوم بوصلها بواسطة مولّدة فتتكهرب المياه ويقتل السمك. وكما تعلمون فإن الماء ناقل جيد للتيار الكهربائي، صرخت فيه أن يتوقف عن وصل الأسلاك ريثما أتمكن من إخراج قدميّ، إلا أن صوتي لم يصل إليه! وجسمي ينتفض وينتفض حتى فارقتُ الحياة وبذلك صدقت نبوءة الشيخ الجليل..

صحنا به ضاحكين باستهجان واستنكار: ولكنك ما زلت على قيد الحياة! ما هذه الكذبة الكبيرة يا رجل؟
أحسّ بأنه لم يكن موفقاً في خاتمة روايته، فحاول التملّص من مأزقه فابتسم مستدركاً وقال:
-يا جماعة هل الكذب حرامٌ عليّ وحدي؟ أين هو حجم كذبتي أمام ما يكذبه بعض المسؤولين في هذا البلد وعلى مستوى الوطن العربي ؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
280