وقفة قصيرة فرقة «ليش» للمسرح الحركي
المسرح هو فن المشاهدة والرؤية، يعتمد دينامية المشاركة في أي حدث مسرحي، وتشمل المشاركة أولئك الذين يؤدون هذا الحدث، وأولئك الذين يتلقونه.
تتقاطع الأنواع المسرحية جميعها في هذه النقطة.
تفرز كل مرحلة فنها وثقافتها. والمسرح نتاج هذه العلاقة الجدلية بين المجتمع والفن ووفقاً لهذه العلاقة تخلق أنواع مسرحية ومذاهب أدبية أو يعاد خلقها.
والمسرح الحركي يدخل ضمن هذه المنظومة. ويمكن تتبع الاهتمام به كنوع في بدايات القرن العشرين. إذ عرف مسرح القرن العشرين اهتماماً متزايداً بالحركة ودور الجسد، وتعددت اتجاهات العمل مع الحركة ضمن الرغبة في إنعاش المسرح والابتعاد به عن سيطرة الكلام والنص، فظهرت توجهات تنادي بالعودة بالمسرح الطقسية الأولى، كما ظهرت محاولات لتجديد أداء الممثل من خلال استعارة بعض عناصر المسرح الشعبي.
الحركة تحل محل اللغة تقريباً لأن الأخيرة لم تعد قادرة على إيصال معنى، وغابت عملية التواصل.. أو تبرز الحركة أزمة الجسد كما فعل المسرحي الإيرلندي بيكيت في مسرحيته (آه لتلك الأيام).
لقد ارتبط التوجه نحو المسرح الحركي في الغرب بسبب الأزمات التي عاشها الإنسان الغربي في منتصف القرن الماضي فكان لابد من شكل مسرحي يوافق ما تطرحه المضامين.
ومن ناحية أخرى فقد ظهرت الدراسات التي تخص العلوم الإنسانية كازدياد الاهتمام بالأنثروبولوجيا والسيميولوجيا وعلم النفس وغيرها التي تضافرت جميعها وأولت اهتمامها لحركة الجسد وروامزه.
واليوم تقدم فرقة «ليش» للمسرح الحركي، تجربتها في سورية. وتثار القضية حول مشروعية هذا المشروع، وضرورته وأسباب وجوده وأهدافه.
ولهذه المسألة جانبان متداخلان هما الشكل والمضمون:
فعلى صعيد المضمون تطرح هذه الفرقة التي قدمت عرض «بعد كل هالوقت» وبعد مجموعة من الستاجات، قضايا معاصرة لا تحاكي بيئة أوروبية بل تحمل معاناة إنسانية، بل ومحلية أيضاً.
إذ يطرح العرض الأول قضية عدم القدرة على التواصل بين زوجين شابين ـ مشرفة الفرقة نورا مراد هي الشابة الزوجة التي تعيش في مجتمع يفرز أمراضه وأخلاقياته على أكثر الدوائر صغراً : الزواج، وتبدأ معاناة كل من الزوج والزوجة اللذين بنيا كثيراً من الحب والأحلام في السابق، لكن الواقع يفرز صعوباته الاقتصادية والاجتماعية المشوهة لأدق التفاصيل.
في بقية «الستاجات»، وهي ورشات عمل تدريبية، تشرف عليها «نورا مراد» يقدم عرض كنتاج هذه الورشة والحصيلة ثلاثة (عرض ـ ستاج)
يعتبر القاسم المشترك بينهما: تعرية العزلة، وإبراز مجتمع كامل يتسم بالتخلي. التخلي قبل كل شيء عن الحاضر الذي يتميز بالعلاقات، التخلي عن السعادة في اللقاء الفعلي.. وفقدان القدرةعلى التواصل أو التفاعل بين الذوات، أو بين الذات الواحدة ومجتمعها.
في الستاج الأول: عبر العرض عن انعدام القدرة على التواصل بين الذات وأحداث مجتمعها بل والعالم، فقدان القدرة على الرؤية والسمع والكلام.
وفي الستاج الثاني: تفرض على الفرد مسألة تحديد موقفه من السائد. ما هو السائد؟ ما هي ردة الفعل تجاهه؟ كيف يمكن تقييمه؟ وما هي طبيعة العلاقات التي تحاول أن تتحكم بتفاصيل حياتنا اليومية وتنمطها؟ كيف نحمل هذه الأزمات في ذواتنا وكيف تتدخل في أكثر التفاصيل حميمية، طريقتنا في الحب..
وهكذا تسعى المشرفة «نورا مراد» لتطوير هذا المشروع المسرحي الذي يحاول أن يجمع بعض الفنون متزامنة (ممثل/ راقص/ مغن) كما في الستاج الأخير، ليقول معاناتنا وأمراضنا بعيداً عن الترف الفكري.. وقريباً من مشاكلنا وخاصة مشاكل جيل الشباب.
يحاول هذا المشروع إثبات نفسه، في الوقت الذي توضع فيه العراقيل والعقبات في طريق المسرح.. إذ يجد العاملون في المسرح أنفسهم أمام الزحف نحو الشاشة الصغيرة.. ويجدون أنفسهم في مآزق مالية نتيجة انخفاض الأجور وعدم القدرة على التمويل الذاتي.. وفي الوقت نفسه تغيب الخطة الثقافية المتكاملة التي تأخذ عملية البناء والتراكم المسرحي بعين الاعتبار. والنتيجة غياب مشروع مسرح سوري متكامل يستعيد القدرة على إعادة الصلة بين الجمهور والصالة.
النقطة الثانية في موضوع المسرح الحركي هي الشكل:
يسرع البعض إلى إطلاق الأحكام: فيطلقون عليه اسم «ترف جمالي»، «مسرح نخبوي».. إلخ في الواقع تدخل في هذه قضية الذاكرة البصرية وتكريس الأعراف المسرحية.
أي عندما يصبح المسرح تقليداً وعرفاً اجتماعياً، بكل أنواعه ومدارسه، يصبح المتلقي بذاكرته البصرية التي تراكم وتبني، قادراً على الانتقاء والتواصل والمشاركة مع العروض. المشكلة لا تكمن في وجود مسرح حركي، بل في غياب دور المسرح كمشروع متكامل. فوجود المسرح الحركي ليس بديلاً أو نفياً لبقية الأنواع، بل ضرورة يجب أن تترافق مع إنعاش وتنشيط المسرح ككل.
كثيرة هي العراقيل في طريق المسرح، وغياب الحرية أهمها. فالحرية شرط المسرح.
لابد إذن من وجود خطة ثقافية تقوم بإشراف الدولة «وزارة الثقافة» لتستوعب الطاقات الشابة، إذ أن المراكز الثقافية الأجنبية تتحول إلى نقاط استقطاب لأن الفجوة لم تردم بعد بين الإبداعات الفنية ووجود الجهة الثقافية الممولة والداعمة.
القضية ليست ميلاً فرانكوفونياً دائماً، بل طرق لكل الأبواب، وعندما تغلق جميعها.. فما الحل؟
إن هذا الموضوع يحتاج إلى كثير من المناقشة والبحث والتأمل.
إلى أين يسير المسرح في سورية؟
* لينا الأيوبي
للمزيد من النقاش:
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 170