الكاتب والمفكر د. جميل قاسم.. لـ «قاسيون».. إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة

الدكتور جميل قاسم، واحد من المفكرين والمثقفين اللبنانيين. وله مؤلفات عديدة، منها: ـ مقدمة في نقد الفكر العربي. من الماهية إلى الوجود. ـ المختلف والمؤتلف. ـ الفكر المحض.

دعته «قاسيون» ليساهم من خلالها بتسليط الضوء على بعض الجوانب في الفكر العربي التنويري الحديث والفلسفي منه على وجه الخصوص. وكان الحوار التالي (مع الاعتذار المسبق للتكثيف بسبب ضيق المساحة):

* أية إطلالة يريدها الأستاذ د. جميل من خلال محاولاته الفلسفية الثلاث «مقدمة في نقد الفكر العربي»، «المختلف والمؤتلف»، وأخيراً «الفكر المحض»..؟

** حاولت في هذه الثلاثية المتواضعة أن أدعو إلى فكر عربي تقدمي ينقله من مقولة الواحد، إلى فضاء الوحدة التعددية في مجتمع عربي تقدمي موحد. ففي كتابي الأول أردت التخلص من النظرة الماهوية، والطوباوية نحو نظرة وجودية جديدة من شأنه أن يذكر الإنسان العربي بكينونته المستلبة.

وفي كتابي الثاني (المختلف والمؤتلف) فقد قمت بمراجعة نقدية لتيارات الفكر العربي المعاصر انطلاقاً من منطوق فلسفة الاختلاف في ذات الشيء، وهي فلسفة تقوم على تجديد المعنى والقيمة بناءً على التعدد والاختلاف. وليس على التناقض والتضاد والخلاف وشتان ما بين الاختلاف والخلاف.

وأخيراً، عملت (الفكر المحض) وهو دعوة إلى استحقاق الفكر الفلسفي المحض الذي يتحدد بذاتية الفكر وليس بأعراضه وأغراضه الخارجة على النظر في الوجود كوجود وكموجود.

* هناك من يقول إن الفكر العربي النهضوي منذ البداية، بقي في إطاره النخبوي، بعيداً عن المجتمع العربي، مما أبقاه حكراً على طبقة معينة بعيدة عن سواد الشعب العربي، فكيف ترى ذلك؟

** نعم أنا أؤيد هذا الرأي، وهذا يتلخص تماماً بأن النهضة العربية في القرن التاسع عشر وما بعده كانت نهضة مرآوية ترافقت مع ولادة المجتمعات العربية المحدثة ولا أقول الحديثة، وترافقت مع نشوء النخب الجديدة التي اختلطت، في نظرتها إلى الكون والكينونة، والتغريب بالعالمية والأوروبة بالكونية، فأصبح المثقف خواجة، والحاكم باشا، أما الشعب فبقي رعية من رعايا السلطة والسلطان، ولذلك لا نستغرب عندما نرى أن الطهطاوي كان يدعو إلى تعدد الزوجات. وهو ينقل انطباعاته عن العقل الليبرالي والاشتراكي بمؤلفاته المختلفة. ولا نستغرب اقتران الفكرة التطورية عند داعية التطورية شبلي الشميل بالتأكيد على محاسن الكولونيالية وتأييد كرومر «الإنكليز يصلحون فلماذا يكرهون؟…»، ونجد من جهة أخرى في فكر محمد عبده  الإصلاحي اختلاطاً بين الإرتقاء (التطور)، والأشعرية الفلسفية. ولا زلنا أسرى الخلط النظري بنتيجة حالة العمش الفكري التي لا تميز بين ما هو فلسفي، ديني، سياسي، واجتماعي. وتخلط الفكر بمنطق السلطة والسلطان مع تغير الزمان والمكان وحالة الإنسان.

* هل يرمي الاستبداد السياسي الذي يسيطر على النخبة العربية الحاكمة، بظلاله على التنوير الفكري في المجتمع العربي، وكيف تحلل الحالة العربية الآن؟

** لقدانتقلت المجتمعات العربية، من طور النهضة إلى طور الثورة بدون المرور بمرحلة الديمقراطية التحررية. مما أدى إلى تعميق حالة الإلتواء والتخارج البنيوي في مجتمعاتنا العربية المحدثة. وقد اكتشف النقد الماركسي الحديث مع «أبستملوخ» مثلاً ومدرسة «فرانكفورت» أنه حتى الثورة الاشتراكية لا بد لها أن تتبنى القيم البرجوازية الثورية ومنها قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، العلم والعلمانية، والفرد والفردية، وأنه في إطار جماعي واجتماعي. وأنا أرى الآن أن فكرة الثورة، الوحدة، النهضة، الإصلاح والأنوار أو التنوير لابد أن تقترن بالديمقراطية وألا تتحول عاجلاً أو آجلاً من الفكر إلى أشكال مقنعة من الفكر الاستبدادي المستحدث. واعتقد أن قدرنا في هذه المرحلة - التي تتطلب المراجعة النقدية لكل مناحي وجودنا العربي- هو الديمقراطية، إن الفلسفة من حيث كونها نظرة وجودية تقوم على العقل المحض والفكر المحض هي المرادف الفكري للديمقراطية. إذاً .. الفكر المحض من شأنه أن يقدم لنا نظرة جديدة تقوم على منطق الاختلاف والتعدد والمعرفة الدقيقة (الابستيمية) وليس من قبيل المصادفة أن تقترن فلسفات ثلاثة مفكرين روسو وفولتير ودمورو بالثورة الفرنسية.

فالفلسفة صاحبة فكر تحريري من شأنه أن يعزز المشروع الديمقراطي السياسي شرط أن تقوم الفلسفة على منطق الاختلاف والتعددية والغيرية وليس على الإئتلاف والتطابق والدوغمائية.

* هل من مسافة بين الفكر الفلسفي، والسياسة، أعني هل هناك حالة تناحر بينهما أم هي حالة تطابق؟

** الجواب في السؤال  الصادر، والسؤال في الجواب نفسه. فالحرية الفكرية هي الوجه الآخر للتحرر السياسي.

* كيف تنظر إلى الفكر الماركسي، والاشتراكية، وتجلياتها في الفكر العربي في القرن العشرين..؟

** أرى أن على الماركسيين العرب أن يستوعبوا الحركة النقدية الماركسية، وما بعد الماركسية، ولاسيما الاتجاه الإنساني الماركسي الذي ربط التحرير الاقتصادي بتحرير الفرد والإنسان والمجتمع. والربط بين النزعة الاقتصادية والنزعة المعرفية، فمثلاً: مدرسة فرانكفورت جددت المعنى والقيمة في الفكر الماركسي، وأصبح الفكر الماركسي بذلك كأي فكر إنساني آخر، قابل للمراجعة والنقد بعيداً عن عبادة الأوثان. وما يبقى من الماركسية بعد تشذيبها  نظرية رأس المال العظيمة التي قدمت لعلوم الإنسان مصطلحاً مفتاحياً لفهم بنية الرأسمال على الصعيد الغربي والعالمي. ولا يضير الاشتراكية أن تصبح، بعد الفهم الدقيق لمنطق العصر والحداثة، فلسفة اجتماعية تقترن الضرورة بالحرية، والإنتاج بالمبادرة.

وأنا أرى من جهتي أن كلمة الاشتراكية هي المرادف لكلمة الـ «كوميونيزم» فيما هي في الحقيقة ترجمة أدق لعبارة سوسياليزم أي اجتماعية. وبرأيي أن ما تبقى من الاشتراكية العلمية هو الاشتراكية الديمقراطية الاجتماعية، مع تفاوت واختلاف التجارب المتبعة.

* وكيف ترى صحوة الشعوب في وجه استشراس الرأسمال العالمي..؟

** ذكرت سابقاً في تعليق على أحداث 11 أيلول: أن صحوة الشعوب هي تأسيس لنظام عالمي جديد يقوم على العدالة بين الأفراد والشعوب والقوميات ويقوم على شرعة حقوق الإنسان التي تأخذ بعين الاعتبار الفوارق والاختلاف في درجات التطور والتكافؤ بين الأفراد والشعوب. وهذا النظام الذي دعا «كانط» إلى ما يشبهه في القرن التاسع عشر، نحن الآن بحاجة ماسة إليه، من شأنه أن يحرر شرعة حقوق الإنسان نفسها من إرادات القوى التي تستعملها بهدف إقامة نظام عالمي وحيد. وليس جديد. وأنا أرى أن هذه الصحوة لم تعد ممكنة باللجوء إلى منطق الثورة المجرد. بل لابد من إقترانها بالعلم والتقنية والحرية السياسية أو «الديمقراطية».

فيجب على الثورة أن تقترن بالديمقراطية والحرية وشرعة حقوق الإنسان، وأن تنتزعها من أيدي القوى المهيمنة والمسيطرة لتعطيها معنى جديداً وقيمة جديدة مختلفة.

* كيف ترى الصراع الدائر الآن بين الفكر العربي التنويري، وبين الفكر السلفي، وهل استطاع الفكر العربي التنويري تجاوز المعوقات الجمة، وارتقى بذاته إلى العالمية…؟

** أتمنى أن تخرج من منطق الصراع إلى منطق الاختلاف والتعدد. فالاختلاف حسنة، بينما الخلاف مثلبة، وشتان ما بين الاختلاف والخلاف، وأنا  رأيي بأن النهضة الثانية أو الثالثة لابد أن تكون نهضة تكاملية أو لا تكون، تتكامل فيها النهضة بالأنوار، بالإصلاح الديني في مجتمع ديمقراطي يقوم على الوحدة، وليس على النظرة الواحدية كما ذكرنا.

* ما هو الحلم الذي عايش د.جميل قاسم ومازال يدغدغ مخيلته وكيانه الإنساني في لحظات كينونته؟

** الحلم أن أجد نفسي في مجتمع ديمقراطي تقدمي موحد، أجد فيه إنسانيتي وأمميتي وقوميتي، وقوميتي في إنسانيتي وأمميتي.

* هل من كلمة أخيرة تختتم بها هذا الحوار؟

** جزيل الشكر لهيئة تحرير جريدة «قاسيون» وقرائها الأعزاء وهي جريدة متقدمة روحاً ونصاً على أن نتذكر سوية أن النفس كما يقول النفري أوسع من النص (إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة) وعلينا أن نبحث دائماً عن تجدد المعنى في تجاربنا الفكرية والسياسية المعاصرة بمنظور ديمقراطي وتعددي.

 

* بيروت: ابراهيم بركات

معلومات إضافية

العدد رقم:
170