ربما شبح سبارتكوس المصري
يلاحقني شبح الشاعر أمل دنقل دون أن يكف عن الصراخ بنزق فارس!! أحيد عن دربه فيطلع من تفرعات جانبية، ليحاصرني في زاويةٍ معتمةٍ، ويظلّ يقترب ويقترب وهو ينشد ما يشبه التميمة: «من قال "لا" فلم يمتْ وظلّ روحاً أبدية الألمْ..»
صورة أمل دنقل كشاعر رفض تبدو مفقودة الآن، فشعراء هذه الأيام صمتوا في الأزمنة الرديئة، على العكس تماماً مما أراد بريخت!! شعراء هذه الأيام ارتضوا أن يغرقوا في اندحار كلمات لا تعني أحداً، لغة من أجل اللغة، هذا «يتسوّل الضوء»، وذاك «يزرع ورود الموت ويعزف على كمنجات العدم».. صحيح أن الزمن الذي تغيّر غيّر معه طرق الكتابة، لكن الصحيح أيضاً أنّ هناك «أنا» مريضة جعلت من الشعر مسرحاً لأنوات لا تمسّ، ولا تعني، أحداً، وهو ما جعل من الشعر سقط متاع.. لم يعد سؤال الشعر ما الذي يناسبني لأكتب قصيدة تقول إنساناً، أو جانباً منه، بل ما الذي يلزمني لأبدو فريداً وعبقرياً، حتى لو في شائعات شفهية..
كأني أحاذي خطوه في شوارعه الملوكية إذ يستنطق كل الأشياء لتدلي بشهادات ضد عصر الهزيمة، ثم في مقهى «ريش».. يكتب على قصاصات الجرائد والبطاقات ما سيصبح أناشيد ترددها الأجيال، مساهماً بالشعر في خرق الجدار الذي صعد بمنتهى الوقاحة في وجه الشروق..
كأني به يبكي سقوط «السويس» والقاهرة ولا على بالها..
كأني أسمعه ينشد للكمان: «لماذا يتبعني أينما سرت صوت الكمان؟؟»..
وكأني أراه في «الغرفة 8» من الطابق السابع في معهد الأورام يحادث الزهور الجميلة مركباً موتها على موته، موته على موتها، في لعبة تبادل أدوار في عالم ينتهي رويداً.. رويداً..
وصل أمل دنقل بالشعر إلى لحظة درامية خاصة، جمعت أصوات الفقراء بإرادة النهوض القومية، وذلك بتعرية عورة الداخل الهزيل الذي كان السبب الأوّل وراء الهزيمة، كما أنه ألّف بالشعر للناس عهداً جديداً (المقصود ديوان «العهد الآتي») إذ صارت الهموم العامة هموماً شخصيّة.. القصيدة الدنقلية التي أُقفلت دائرتها قبل ست وعشرين سنة أعطت دوراً بارزاً للدراما والحبكة السردية والرمز والقناع والصورة والتفاصيل السينمائية والحوار والسخرية. ومع أن صاحبها رحل قبل الأوان إلا أنه سيظل مدى الأجيال نسيجاً مختلفاً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 409