على الإنسانية ألا تنسى!!

ــ1ــ

قبل أيام أخذت ابني (ناصر) إلى البحر بعد أن توفر لنا صديق عزيز توسط بإيجاد فندق سياحي(ممكن) أي (ممكن) بالمعنى (الجيبي) وممكن بمعنى انك ستستريح ولن تمارس سياسة (شد الحزام كثيراً).

صادف أن موقع هذا الفندق كان يبعد ثلاث محطات بالباص عن محطة الاستراحة السابقة التي كانت تابعة لاتحاد الكتاب البلغار (أيام الاشتراكية). حيث في هذه الاستراحة كنت آتي وناصر وأمه منذ ان كان ناصر رضيعاً يكبر ويكبر..

محطة الاستراحة هذه لا تشبه الجنة التي توصف للناس بل تقترب من هذا الوصف قليلاً يعني ينقصها فقط أنهار اللبن والعسل وسأترك لمخيلة القارئ الذكي باقي المشهد...

وباعتبار ان (الزمن التحولي) قضى حتى على اتحاد الكتاب البلغار وصار الاتحاد ثلاثة (غير متحدين) وقضى أيضا على اغلب الكتاب بأن صار اغلبهم (بياع بليلة) أو محاسب أو كاتب عرائض عند (شي) رأسمالي جديد، وقضى أيضاً على أغلب النشاط الأدبي والفكري للأمة البلغارية وتحول إلى إما بكائيات على الماضي أو إلى إبداع يتماهى مع المعاناة القاسية من الفقر والحرمان، انعكس ذلك بالطبع على (بقايا) هذه الجنة التي كانت تدعى محطة استراحة (الكاتب) البلغاري تلك، وهيالتي قررت أن أزورها لكي أشهد على ما حصل فيها من تغيير.....

ــ2ــ

صعدت إلى الباص الذي بقي وحده دون تغيير منذ ذلك الوقت، مع ملاحظة أنه صار قديماً وآيلاً للخروج من الخدمة، صعدت إليه وتحرك الباص باتجاه موقع الرمال الذهبية (وهو الموقع الذي حرض فكرة رمال طرطوس الذهبية عند بعض مهندسينا)..... (حيث محطة /الكاتب/ تقع قبل الرمال الذهبية /البلغارية/ بمحطتين).. نزلت من الباص بقرب المحطة واتجهت إليها تملأ ذهني الذكريات حيث تعرفت فيها على أهم شعراء وكتاب الأمة البلغارية ومنهم من كان له دور أساسي بعد التحول

/دور سياسي/ إلى اليسار أو إلى اليمين... ومر بالذاكرة كيف كان مسؤول المحطة يعد برنامجاً ثقافياً كل مساء. فيعرض فيلماً (ربما) او يدعو الحضور لإلقاء شعر أو نثر (ربما) أو حتى الغناء وكان النشاط أكثر من رائع...

قادتني قدماي إلى بوابة المحطة (الجنة) بينما كنت أتذكر كل هذا، ودخلت إلى (حديقتها). أولاً حيث كانت الزهور والأشجار الجميلة تملأ المكان فوجدت الحديقة قد توحشت وامتلأت بالكلاب والقطط الشاردة، وصعب علي الدخول إليها لأن الممرات التي كانت مخصصة لذلك قد غرقت بالوحل ويستحيل المرور فيها...

تركت الحديقة وذهبت إلى مبنى المحطة، حيث كان الكتاب يجتمعون ويسمرون وحيث قبلوا بكل ترحاب (هذا السوري) القادم كفرد طبيعي من أفراد عائلة الكتاب لا بل وبكل حب سمعوا منه شعراً مترجماً وقصصاً عربية أحبوها...

وقفت مذهولاً وسط المكان لأجد أن تغييراً جذرياً حصل فيه حيث بني في جنبه الأيمن بار كبير وعلقت عليه الكؤوس والزجاجات وغيرها... وشاهدت رجلاً يقف وراء البار يزن أكثر من 120 كغ يشبه رافعي الأثقال فألقيت عليه (المرحبا) فهزرمشي عينيه (مشكوراً)... تابعت تجولي في المكان تسكنني (النوستالجيا) إلى حالة وليس إلى جدران إلى عرف إنساني وليس إلى جغرافيا..... تابعت حتى وصلت إلى المقهى الصغير الذي كان مكان التلاقي الصباحي بين الجميع وفجعني المشهد

حيث وجدت الكراسي والطاولات نفسها دون تغيير ولكنها لم تستخدم منذ ست أو سبع سنين وقد نبتت فوقها الطحالب وبينها بعض النباتات (من بيئة المنطقة البحرية)...

عند الطاولة الرئيسية حيث اذكر أن السيد «جورجي جاغاروف» الذي كان نائباً لرئيس الجمهورية عرض علي (ساعةً) كان قد أهداه إياها الرئيس جمال عبد الناصر وقال لي بحسرة: أرجوك أن تجد لي من يشتري هذه الهدية، فانا لم أعد أملك شيئاً لمتابعةالحياة وعندي متطلبات كثيرة... طبعاً كان لقائي معه بعد عزله بأربع سنين وبعد سقوط الشيوعية...

عند هذه الطاولة وحولها كان الزمن (ربما) يزيد من انتقامه، ربما لأنها كانت مخصصة للقيادات!!! عندها وحولها كنت تستطيع ان تقرأ الكثير..... الكثير ولكنك ربما لن تستطيع أن تفسر وتبرر لماذا بنى المالك الجديد (الرأسمالي) للمحطة(بيوت خلاء) بالضبط في المكان الذي كنت تسمع فيه شعراً وأدباً جميلين.....

هل يريد «جون مينارد كينز» بهذا أن ينتقم من «كارل ماركس» أم «جيمس بوند» يريد ان ينتقم من «آرتولد بريخت» هل هذه هي الحقيقة؟! فليعذرني القارئ ولكنني لم أتمالك نفسي في محطة (الكاتب) البلغارية (السابقة) وبكيت عندما خرجت منهناك ليس على «كارل ماركس» ولا على «تودور جيفكوف» ولا على «لينين»... لقد وجدت عندها أن كل الإنسانية غبية وغشيمة وتستحق البكاء. فلم يكن دفاع النظام الاشتراكي عن شعب فيتنام وشعب تشيلي وكوبا وفلسطين وكم الأدب والفن الهائل

الذي أنتجه في هذا الخصوص مطلقاً، مطلقاً، أدباً شمولياً وخادماً (للأمناء العامين) بل موقفاً إنسانياً مهيباً يستحق الإجلال والاحترام، وعلى الإنسانية ألاّ تنسى مواقف شعوب وحتى أنظمة العالم الاشتراكي في خدمة البشرية، في الوقتالذي كان فيه (الديمقراطي) يمد يد العون لـ«سوموزا وبينوشيت» وكل ديكتاتوريات العالم والعالم العربي (ولا زال)...

المصلحة..... المصلحة، تقف خلف شعارات يشبه طعمها، طعم المن والسلوى..... وشاهدي هناك هناك..... في كل مكان، حيث يتقيأ ذاك الرأسمالي.. 

 

■ د. محمد عبدالله الأحمد

معلومات إضافية

العدد رقم:
228