مطبات: حوار يائس عنـ..نا

لا تكفي اللغة اليائسة- بعد الأربعين- لتقول بدلاً عنه ما يشعر به الآن من عدم الجدوى، كأن كل الحروب التي خاضها مجرد معركة لـ دونكيشوت الهارب إلى الطواحين يستجديها من أجل نصر مخادع.
الآخر الذي مازال يعتقد أنه قادر على الفتوحات، وأن معركة كلامية ربما تغير من الواقع، وأن بإمكانه- هو وذلك القلم الذي قارب حبره على النفاد- إزاحة موظف بسيط عن كرسيه، وأن المعارك الكبرى مازالت تنتظر المحاربين العجائز، وبجرة من قلمه يحدث تحولاً على الأقل في برنامج أحدهم.

منذ أن تورط باللغة، أو تورطت به، صارت كل حروبه خاسرة، بل كان ينتقي الحروب الخاسرة، وكان يظن أن الكلمة تهزم جيشاً، وتحرر وطناً، وتزيح فاسداً، وتهز بلاهوادة قبضة ظالم، وتهدهد قلب عاشقة، وتفضح الأسرار، وتلهب جذوة المراهقات، وتستنفر من أجلها أجهزة، وتمتد يد الحساب لمن نال منهم.
فجأة استيقظت ذاكرته المفعمة بالكتب، الأساطير، التاريخ الذي قرأه في مكتبة البيت والجامعة، الكتب التي استعارها ولم يعدها لأصحابها، الكتب التي أقنع نفسه بأن سرقتها حلال، الكتب التي اشتراها، الكتب الملونة، الحمراء التي كان يخفيها وتخيفه، الزرقاء التي كانت تشعره بالخجل والتفاهة، الكتب التي قرأها خلسة، الكتب التي خدعته.
أما هي المتفاجئة بسيل اليأس الطافح من كلا الرجلين التي اعتقدت أنهما سعيدان، متفائلان، يكذبان، ينظّران، فقد دافعت باستماتة عن كل القراءات الغبية التي ردداها ذات وقت ليس بالبعيد، ربما في لحظة تداع غادرة، أو حديث شجي عن ما مضى.
المتفاجئة القادمة إلى معترك لعبة اللغة المخاتلة، لم تصدق حديثهما، واستمرت بلا هوادة في الدفاع عن أفكارها التي تشبه ما يعتقده الرجلان المريبان، في داخلها تتذكر أنهما يكتبان كما عهدت لغتهما الأولى، لكن لماذا كل هذا اليأس الذي يقطر من لسانهما، تحديداً صاحب الأيديولوجية المتمردة، واللغة المباشرة، والكلام المواجه، الآن يبدو كمن رفع رايته البيضاء، ثم انطوى كجنرال قديم على مجد كان يعتليه.

الآخر الذي يبدو متحفزاً، العدواني القادر على افتعال مشكلة لمجرد سؤال يبدو ساذجاً، هكذا يتآمر المثقفان، يبدوان على جبهتين، لكن الصمت سيدهما، الأسى يجعلهما يشبهان بعضهما، اللغة التي يقذفها الآخر تبدو كلغة المؤدلج العنيد، إنها الملامح المتشابهة للطعنة، تشابه المهزومين.
من اعتقدت أنهما كاذبان، ومن رأت فيهما يحيكان مؤامرة اليأس، بدا كل منهما يتحسس اللاجدوى التي تسود مهنة كان يعتقدان أنها مهنة الجسورين، ولم تكن بالنسبة لهما مجرد دروس تلقياها في الجامعة، أو تعلماها في مطبوعة، أو تتلمذا عند صحفي عتيد، كان فقط الشعور الغامر في المكان الضيق يقلق الصمت أحياناً، الكلام في كثير من الأحيان.
ماذا فعلت لنا كل الكلمات المعاندة، كل المقالات التي صفق لها كثيرون، وتوعد من أجلها البعض، وتنبأ البعض بنهاية مشابهة كالذي تسود اللحظة، ماذا صنعت لنا اللغة غير المواربة، والمواربة أحياناً من الخوف، ماذا يفعل جيش من المخدوعين في عالم لا يفهم إلا لغة النفاق، وسط جيش قادم ممن فهموا اللعبة على حقيقتها، لم يعتبروا الكتابة قتالاً أو معركة، بل متعة، ابتذالاً، لعباً، جمع مال، تبذيره، ليلاً مزدحماً بالصور، المعجبات الصغيرات، النرجسية التي ترى الوجه وحيداً في الماء، الصوت الواحد، الخصام على إعلان وخبر علاقات عامة.
المواربان، اليائسان، وبينهما المتفاجئة، بينهما اللغة التي تنتهي بالوقوف على السكون، النظرات التائهة التي تؤكد الهزيمة، لكنها لا تبدو استقالة، السير وسط حقل من الطين من أجل لقمة العيش، الارتزاق من أجل آخر ليس نحن.. الذين نتحاور بيأس عنا.

معلومات إضافية

العدد رقم:
415