الصغارُ القُصَّر
(إكبار) المملكة، المكان المتخيل، وحاضن الحدث الروائي في الجبل الخامس رواية باولو كويلو، رغبة تدفع بي للحديث عنها، ليست الرواية، وإنما إكبار لأن ما يجري في هذه المدينة المملكة، يشبه ما نراه في مدن غير متخيلة، نعيشها شارعاً شارعا، وجوه سكانها تعرفناها عن كثب، وجوه زوارها حدقنا فيها فخفيناها، عندما كانت الزيارة لدافع شر مضمر، وابتسمنا أو ضحكت عيوننا حين رأينا عكس ما خمنا، وإن كانت الزائرة تلك «أحمق من لا يلبي دعوتها» حسب زوربا، كنا الهواء المحاصر لكل جهاتها فلا تنفذ منا إلا إلينا.
ونحن نتقاتل، ولنا في وقت مضى مانتقاسمه من الجسور، جسر البشيرية، والجسر القديم، وضفتي الجغجغ النظيف آنذاك، الحزين جداً الآن، والحدائق على قلتها وإهمالها، ومدارس البنات، وشارع القوتلي، المساحة الباريسية في القامشلي، والمعركة بين طرفين يتصالحان دائماً بعد المرور السريع للأنثى، وعطرها الذي يسبقها، ويتبعها، ويجرنا قطعاناً لمسافات خلفه، صغاراً بالمعنى الحرفي للكلمة، وبالمعنى الآخر:الجسد،الروح، و حين لم نستهلك بعد من السنوات، مايجعل قاماتنا قادرة على السقوط في حرب ضروس، و خططنا الحربية وليدة اللحظة، و أسلحتنا الشتائم، الأيدي، وأبلغ السباب من نصيب المرأة التي تهز العالم بيسارها، وترقد تحت قدميها الجنات.
وما أكثر الهزائم في الحب والصداقة والكتابة، كتابة الرسائل الفاشلة باعتبارها مشروع قصيدة ومشروع حياة، حياة تؤسس لخيبة مرتقبة أو الضلوع في مغامرة لاتنتهي بموت البطل أو البطلة، وإنما بموت الاثنين علاقةً وقواسمَ مشتركة، أو في مايسمى(ممارسة حب) تهذيباً وتعريباً للفظ أجنبي أكثر دقة وإيغالاً في المعنى وقتلاً للعلامة اللغوية، وكأن الحديث هنا يخص الشعر وليس الجنس/الجسد.
أما ما علاقة إكبار ممثلة بالنبي واختياره لقول أسطورته فيها، ومصدقاً بعد أن يحيي الميت ويشفي المريض ويقتل الخرافة القائلة بوجود آلهة على الجبل الخامس، ومن ثم إنبات المملكة من رمادها بعد أن أمعن الأشوريون في حرقها، العلاقة متموضعة في التعامل مع الكتابة وخفة انتقالها من التدوين على الحجر والرخام ومشقة التواصل تجارةً وثقافةً، والخوف من فعل الكتابة المهني بحد ذاته، الحبر والجلد وأوراق البردي، تقنية قادرة على الإنعاش والإدهاش، الدهشة من المكتشف وبالتالي محبته والانتعاش بما يحقق من استقدام للآخر بكل وعيه ليكون أسير المكتشف.
مرة أخرى ماالعلاقة حتى لاتكون المقدمة فضفاضة والدائرة حول الفكرة كبيرة فتضيع، ماذا أريد من إكبار والتدوين والرخام والجلد والبردي، فأبني علاقتي، في الحقيقة أولاً لوجه الشبه وثانياً محبة في العمل الذي سيعيش معي طويلاً وثالثاً لاشتغال الرواية على موضوعة البردي، الاكتشاف، إذ قرأت بأن أحدهم كتب على البردي قبل مليون سنة:أن البلاد ليست بخير، والحق يقلب باطلاً والخير شراً، والناس يكرهون بعضهم، والسؤال أين يحدث هذا، أين يجد روحه؟ ومن هم سدنته، بالتأكيد في ظهراني الصغار القُصَّر، ليسوا هؤلاء شبيهي خيول الماكنتوش، قد يكونون بكروش متدلية ورؤوس كرؤوس الثيران، وهم قادرون على إعدام نجاح الآخر ونفيه، ويتجملون فتعشقهم النساء، يستلذون من الطعام أشهاه ومن الشراب أفخره، وأغلاه، ترى بينهم الشاعر فيسمع والناقد فتعمم آراؤه، والصحفي تخاف مقالته إذ طيلة حياته حرر مواداً عن مجاري المياه، ومؤسسات الحبوب بعيداً عن نهبها في سنوات الخير، ودوائر البلديات (بلا عمل) سوى تصريف البطالة، الموزعة في قرى الجزيرة، وترى أيضاً الموظف الثقافي لايميز بين القصة القصيرة والنوفيلا والرواية وبين ما إذا كان نزيه أبو عفش شاعراً كبيرا أو تاجراً في مرمريتا، وهل محمد الماغوط سائق شبه بولمان بين دمشق والسلمية أو موظفاً في وزارة السياحة، وهل توفي قبل أعوام قليلة أم في الستينيات. والقاسم المشترك لهؤلاء جهلهم بالقراءة وبما يحصل في الحياة، فالقصيدة عندهم هي كل كلام موزون ومقفى، والذي كتب مادة في بريد قراء إحدى الصحف صحفي، والذي سبَّ شاعراً قصيدته ليست كلاماً موزوناً ومقفى ناقد، وما يجمعهم أكثر بوحدة حال وهم، بحسب عنترة العبسي: القرابة قرابة الهم وليست قرابة الدم، أضف إلى عنترة قرابة أصحاب الشأن الصغار/الصيصان.
درج بيت المتنبي صاحب «على قلق كأن الريح تحتي» وقد أشعل النار تحت الآخرين في سباق محموم لقول جملة منجزة ومحكمة ليذهب بعيداً في محاولة جادة، غير بيته الذي قتله «إذا كانت النفوس كباراً /تعبت في مرادها الأجسام» وعليه نحن في كوارثنا عرضة للنفوس الصغيرة في الأجسام الصغيرة أو الكبيرة تقلبنا يميناً وشمالاً، فإن اختلفت معهم، خالفت المقدس، وحقت عليك اللعنة، وحرمت من الهبات والعطايا، وأصبحت في اللائحة السوداء، وما أكثر الذين ينبرون ليفندوا آراءك، ويروا فيك العلل، حتى تصدق أنك موهوم ومريض، ومن هنا يمكن أن ينعت من يتعرض لصغير بلبوس الكبير للتزوير والتحوير فيبدو بقدرة قادر مارقاً وجديراً بألا يسمع وأن يمنح الأذن (الطرشة).
ومن الصغار من يرجوك عظمة إذا شُبِّه بالكلب بعد تجريده من الوفاء، فإن كتبت له رسالة يوماً، بعد أن تتكلبن مثله تشجيعاً على كلمة طيبة أو فعل طيب قام به على قلة أفعاله الحسنة، أبرز رسالتك للآخرين على أنها لائحة اتهام ضدك وقال: انظروا هذا التافه بعث لي برسائل كثيرة ولم ولن أرد عليه (تصوروا ألا يمكن لهؤلاء أن يتصرفوا معنا كمعاقين فيرموننا من جبل عال توافقاً مع مقولة داروين صاحب أصل الأنواع «البقاء للأصلح» الأصلح، وليس الأصلع كوني أصلعاً) هؤلاء يملكون أحقاد العالم كله، وفي انتعاش الكذب والرياء والمجاملات، أجدبت الأرض الحقيقية، ونشطت الأرض المجاز لتكون خصبة لنمو شجيرات الحقد، احقدوا..... أصدقكم القول: كلما أمعنتم في كرهكم للحياة، كلما ازددت حباً من باب لايبرز الوجه الجميل إلا بمقابلته بالوجه القبيح، ومن قال لكم بأني لن أنام وأنا أعدُّ حروبكم الوهمية ضدي خلف الكواليس، مَن أوهمكم غيِر سذاجتكم، احذروه... هي نصيحة وكفى!!!!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 416