فنجان قهوة الكاميرا الخفية
ما من موضوع شغلني كما شغلتني الكاميرا الخفية، حتى أصبحت هاجسي الذي يتربص بي أينما كنت.
أسمع أو أرى حادثة رشوة بين موظف ومواطن فأقول إنها تمثيلية للكاميرا الخفية، فمعاذ الله أن يكون في بلدي مرتش، فنحن بلد الناموس والشرف والأخلاق.
أشاهد شجاراً في الشارع فأدرك أنه شجار مرتب من قبل الكاميرا الخفية، فالوعي عندنا يمنع أي خلاف بين المواطنين، أبحلق بمواطن ينظر إلى أخوته المواطنين بكبرياء وتعال وكأنه صاحب حل وربط، فأحزر أنه مصنع لأجل الكاميرا الخفية لرصد ردود فعل الناس من أجل تسليتهم في برامج التلفزيون…باختصار شديد كلما رأيت أو سمعت في بلدي خللاً أو نشازاً فإنني أعزو ذلك إلى مقلب مدبر من الكاميرا الخفية، فبلدي ووطني لا يمكن له أن يحتوي سلبية أو نقيصة مما يحصل عند غيرنا وللكاميرا الخفية أحكامها في إدخال السرور إلى قلوب المواطنين.
لكن حادثة معينة جرت معي أربكتني.. وإليكم الحادثة:
ركبت سيارة أجرة، وفي نهاية المشوار كان عداد السيارة قد سجل مبلغاً قدره سبع عشر ليرة سورية، وبأريحية شديدة نقدت السائق عشرين ليرة. لكن السائق طالبني بخمس وعشرين فنبهته إلى أنني دفعت ثلاث ليرات زيادة عما هو مسجل على شاشة العداد. لكن السائق أصر على خمس وعشرين ليرة طالباً مني تجاهل العداد الذي هو مجرد علك.. حينها فقط تيقنت بما لا يدعو للشك أن الكاميرا الخفية مخبأة في مكان ما من السيارة وهذا الرجل ما هو إلا صاحب المقلب متنكراً في هيئة سائق. وبسرعة بدأت أقدح زناد فكري فيما يجب علي فعله، فالمسألة ليست بضع ليرات زيادة، بل هي أكبر من ذلك لأن الحادثة ستظهر على شاشة التلفزيون وربما على شاشة القناة الفضائية. أي أن العالم برمته سيكون شاهداً على سلوكي وتصرفي. وأنا هنا لا أمثل نفسي، بل أمثل المواطن الذي هو صورة الوطن. وكان علي وبسرعة اتخاذ القرار إما بدفع الزيادة أو رفضها وذلك بما يقتضيه الواجب لمواطن يقدم الصورة الأمثل عن وطنه.
كنت ميالاً إلى دفع ما طلب الرجل من زيادة كيما تظهر صورة المواطن العربي على أنه كريم معطاء، يعيش في بحبوحة ورغد من العيش، وأن التفاهم والتسامح سمة عامة بين الأخوة المواطنين، لاسيما إحساسي بأن الزيادة سيعيدها لي هذا السائق المزعوم بعد أن يبتسم مشيراً إلى الكاميرا الخفية والأغلب أن يعيد لي المبلغ كاملاً وتكون التوصيلة على حساب الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون ووزارة الإعلام تحت بند النثريات.
لكن الخيال عاد فشطح بي إلى أن ما اعتبرته كرما ًوتسامحاً ربما لا يكون كذلك في نظر الدول الكبرى ومجموعة الأوبيك وحلف الأطلسي. وقد يرون ذلك تهاوناً في الحق وتفريطاً به. وقد يصور لهم عقلهم أن من يتهاون في حقه مهما كان ضئيلاً ويفرط به يمكن أن يفرط بأرضه ووطنه وحرية واستقلال بلاده.
الحقيقة أنني احترت كيف علي أن أتصرف وبأية صورة يجب أن أظهر ممثلاً لوطني أمام العالم مشاهدي التلفزيون، فالقضية ليست شخصية تتمثل بثماني ليرات زيادة عن تسعيرة العداد. بل هي موقف وانطباع وطني أقدمه لشعوب وحكام العالم بما فيه من دول صديقة ودول معادية ودول نص على نص. عليها جميعاً أن تعي كيف تتعامل معنا.
ارتأيت حلاً يقضي بأن أهدد السائق بالشكوى للتموين، فالتموين هو البعبع المخيف، لكني خفت أن يتابع السائق المدعوم دعابته فيقول لي: طز فيك وبالتموين. وهنا تنكشف قلة الاحترام المتبادل فيما بيننا كأفراد من جهة وكأفراد ومؤسسات من جهة أخرى.
والأهم من ذلك أن المحللين السياسيين والاجتماعيين في العالم ربما يرون في التهديد بالشكوى أننا لا ندافع عن حقنا بأنفسنا، بل أننا نلجأ إلى الشكاوى لإنصافنا مما يحيق بنا من مظالم وضياع حقوق. فيترجم هؤلاء المحللون السياسيون سلوكي في تقاريرهم أن العرب يعتمدون على مجلس الأمن لإنصافهم من المعتدين وهم ـ أي المحللون السياسيون ـ ينظرون إلى مجلس الأمن على أنه /طز/ أمام الفيتو الأمريكي المنتصب في وجه الضعفاء.
أحسست بالدوار أمام كل هذه المعادلات والأفكار وما عدت أذكر كيف تصرفت مع ما توهمت أنها كاميرا خفية ومازالت الكاميرا الخفية هاجسي وما خفي كان أدهى وأعظم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 167