كيف تفقد دمشق رائحتها؟

يتفق أن للتاريخ رائحته الخاصة.... لمرور الزمن قلقه الخاص.... لتراكم السنين متعة امتلاك الرؤية، وربما مازال شعراؤنا يحلمون برائحة الياسمين التي كنا نسمع عنها أطفالاً، ومازال التاريخ محط اهتمام كبارنا من الباحثين، لكن أسوار دمشق صارت لعبة سياحة غريبة لاتحمل رائحتها ولا نرى آثار الزمن عليها إلا في حلم الحكايات القديمة، هكذا نحن نفخر بدمشق كأقدم عاصمة في التاريخ لكننا لن نسمح للأجيال القادمة بالشعور بهذا الفخر، فأقدم ما سيجدونه في زوايا عاصمتهم القديمة هي الكتب التي تحكي التاريخ.

 طبعاً العصر الحديث، التطور، ومجاراة العالم الحديث ضرورات هذا الزمن الذي يفتقد الهوية. نعم... لا تنفصل الأمور عن بعضها فصناعة أجيال غير منتمية، غير فاعلة هو نتيجة طبيعية للتهميش الذي عاشته أجيالنا. إنه استخدام التخويف والترهيب في حضانة للأطفال، وهو هدم التاريخ في شوارعنا. إنه تأطير العقول في المدارس، وهو استخدام حجر لامع في ترميم البيوت الشامية القديمة. إنها سياسة الربح ورؤوس الأموال التي تسيطر على النظرة إلى التاريخ. فكم هو الربح عال إذا تحول بيت جبري إلى مطعم، ولكن كم هي الخسارة كبيرة. كيف تتداعى بيوت يوسف العظمة وأبو خليل القباني و.... كيف يجف نهر بردى..... وكيف تختفي الكتب من منازل الناس..... وكيف تصبح متابعة نشرات الأخبار تشبه متابعة مسلسل عربي، لا تخصنا، لا تحرك فينا شيئاً إلا بمقدار ما تحركه فينا المسلسلات المكسيكية، لكن الفرق الوحيد أننا أتقنا فهم هذه المسلسلات. فنحن نعرف أن كل الحيل والخدع التي يمارسها الشرير ستنكشف ليعيش الأخيار في النهاية بسعادة وسلام، أما في نشرات الأخبار فنفتقد هذا الاطمئنان لتحل مكانه غصة لا يتسع لها الزمن لتنتقل إلى مرحلة أن نفكر فعلينا أن ننام كي نستطيع الاستمرار غداً. يكفينا ما نراه في حياتنا لا ينقصنا مآس جديدة.
 لا تتسع الجرائد ولا حتى الكتب لاحتواء الإجابة عن التساؤل حول كيف تفقد دمشق رائحتها، فكيف تتسع قلوب أهلها الذين يقتطعون منها حياتهم، فهل يرون أنهم يقتطعون الأجزاء الأخيرة من دمشق التي نعرفها لتصبح مدينة ما، لا تختلف عن غيرها إلا بنسبة التلوث. إنها حكاية طويلة تمتد عناصرها من الاقتصاد إلى السياسة إلى السياحة إلى الثقافة إلى الحب، تتشابك تفاصيلها لتؤدي إلى نتيجة واحدة.

 من تاريخ الطرقات نبدأ، من البيوت التي تنتظر دورها في خطة المحافظة الأبدية في الترميم ولكنها تسأم في النهاية لتفقد الأمل فتستسلم لعوامل الزمن وتحط تاريخها الطويل على قارعة الطريق الذي كانت شامخة على حوافه فيما مضى لتتحول إلى أكوام من الحجارة، أو ربما أنها تخشى الحجر اللامع فتفضل السقوط بغبارها، أو تراها ترفض التحول إلى مقهى لا هوية له، من الغريب أننا نعتاد الشاذ على أنه طبيعي وننسى ما يجب أن يكون، فمن عاد يفكر في تحويل الأماكن الأثرية إلى متاحف، فلنكتف بالمتحف الوطني الذي يرصد ما قبل التاريخ وننسى أن يوسف العظمة قد انبثق من داخل أسوار دمشق، وأننا ربما في أمس الحاجة الآن إلى تذكر رجل مقاومة وطني، كي لا نضيع البوصلة حتى النهاية. أو ربما لا نعرف أن بيت أبو خليل القباني في المهاجرين يتداعى دون أن يعيره أحد نظرة واحدة، وهو الذي أسس المسرح في سورية، هل نبتعد عن الطبيعي إذ يتبادر إلى ذهننا تحويل منزل هذه الشخصية إلى مقر يستقبل الفرق المسرحية الشابة المشردة في البيوت الضيقة ليكون مكاناً يواصل دور صاحبه في المسرح السوري، ليكون ملتقى مسرحياً يضم ورشات العمل والبروفات المسرحية والعروض الخاصة، وأي تكريم لرجل المسرح أكثر من أن تعلن أن دوره لم ينته وأن منزله ما زال ملتقى من يشاركه نفس الهم.
 هل ستبقى دمشق لنا! هل ستبقى خصوصية هذه المدينة تفرض نفسها على التاريخ! أم أن هذا الزمن سيسيطر بطابعه التجاري على زمن يتهاوى تحت خطط الانفتاح والتوسع والتطور و....
 كيف تفقد دمشق رائحتها هو كيف نفقد هويتنا.. كيف نفقد متعة الانتماء لنصبح جزءاً من سوق عالمية، لنصبح سوقاً لتصريف المنتجات وطرفاً لتقديم التنازلات، فما عادت الإجابة على سؤال «أكون أو لا أكون» تقتضي الفعل، الفعل صار يعني: لا أكون، أما أن أكون فيعني ألا أفعل وأنتظر أن يأتي زمن آخر أعيش فيه مرتاحاً حيث لا أشعر بالظلم، ولا أفتقد الطمأنينة، ولا أتنازل عن حقوقي..

معلومات إضافية

العدد رقم:
165