فارس فارس الابن فارس فارس الابن

حكايا المرايا: كتابة نصف القصة

أخيراً، يقدم ياسر العظمة شيئاً جديداً ومهماً، يحلل للناس شيئاً لم يعرفوه بحذافيره.. يدخل إلى جذر المشكلات وأصولها، ولا يبقى على سطحها. ومن الواضح للعيان أن ذلك مرتبط بالظرف العام رقابياً.

 إن النضج في «مرايا» هذا العام يتبدى على أكثر من مستوى.

الأول عمق الفكرة وجوهريتها، وطرحها بوضوح وجرأة لم نعهدهما في «المرايا» السابقة. الثاني: مرتبط بأسلوب المعالجة. ففي الأعمال السابقة، كان النص يهيئ الظروف الدرامية حتى نصل إلى حدث النهاية الذي يتلخص في جملة، كان يمكن أن ترد بطريقة أو بأخرى دون مقدمات درامية طويلة. بمعنى أخر، إن الفكرة التي ترد في قول شخصية ما غير مرتبطة بالدراما المقدمة في لوحة من «مرايا«. ولكن في العمل الآن ، هذا العام، أصبح العمل الدرامي في اللوحة الواحدة عن طريق تسلسله، وعلاقة أجزائه ببعضها بعضاً، يقدم تحليلاً عميقاً وواضحا ًفي آن، لظاهرة خطيرة في هذا البلد.
أعتقد أن كلامي هذا سيصل بالبداهة على أنه حديث عن لوحات معينة متميزة مثل «بحكم العادة» و «سبيل ياعطشان» و «من طرف أبو شهاب».

مثالاً نتحدث عن لوحة «من طرف أبو شهاب» التي تتحدث عن شخص عاطل عن العمل حيث ذهبت دكانه في التنظيم، فيحاول البحث عن عمل. يمر بمكتب العاطلين عن العمل فيكون رقمه «12170» أي قبله «12169» عاطلاً عن العمل سيوظفون. يدله صديقه أبو شهاب على مدير كان سبق له و أن ركب في منزله نوافذ ألمنيوم. يذهب إليه مرتين ويطرد من مقر العمل، فيذهب إلى منزله. حيث نعرف أن مضحكاً خاصاً للمدير، يفترض أن يصل من طرف أبي شهاب أخر. فيخلط بينهما، وتصبح المأساة التي يعرضها البطل، أبو نبيل، والتي اكتسحت حياته ومنزله وأفراد عائلته، تصبح نكاتاً يضحك عليها المدير وصحبه في الجلسة المسائية في فيلا المدير.
للوهلة الأولى، تبدو اللوحة حكاية ميلودرامية كانت قد بذلت على أسماعنا مئات المرات. ولكن، ما الذي ينقذها من هذا المطب. أولاً: يتعامل ياسر العظمة مع الواسطة (أو الفيتامين «واو» كما يسميه الناس) على أنه جزء عادي من حياتنا، كالأكل والشرب والنوم، وهي كذلك فعلاً. إن هذا الطرح عندما يقدم درامياً، يجب أن يولد شعوراً بالمهانة عند المشاهد ذلك أنه يعيش في بلد أصبح إهمال الكفاءات فيها، وحرمان الناس من حقوقها أمراً اعتيادياً نمر عليه دون تساؤل أو انتقاد.

لنناقش بشيء من التفصيل والتحليل هذه المسألة: كان يمكن لهذه المسألة أن تطرح على أنها المحور المباشر في القصة المقدمة.. وأعني مسألة الواسطة. عندئذ يكثر الحديث المباشر فيها وتصبح حديث الشخصيات بشكل دائم. فيقدم مشكلة الواسطة ـ التي يعاني منها الجميع ويعرفها الجميع ، ويستفيد منها البعض على أنها المشكلة الكبيرة والجوهرية، مما يؤدي إلى ما نسميه بالتطهير، وبالمصطلح الأعم والأوضح «التنفيس» إن المشاهد سيشعر بالراحة لأن مشكلة طرحت بوضوح تام وقدمت للجميع، وبالتالي فإنه لا يقاومها ولا يفعل شيئاً لإلغائها.
بينما يقوم الطرح المقدم هنا بإثارة ذلك الشعور بالمهانة المعاكس لشعور الراحة فيستفز المشاهد لأن يلغيها، بإضافة إلى أن طرحها بهذه الطريقة سيؤدي إلى ربطها بما هو خلفها مسبباتها وبما هو أمامها نتائجها فنحن أمام مشكلة أكبر سببتها، هي عدم احترام البلد لحقوق مواطنيه، ونتائجها أن المأساة تصبح نكتة لمن يتحكم بالأمر.
لكن مشكلة كبيرة تلح على إفساد ذلك النضج، هو الجملة الأخيرة التي يقولها ياسر العظمة ناظراً إلى المشاهدين (إلى الكاميرا( إنها تلك الجملة التي تقول للمشاهد الفكرة بوضوح مؤذٍ، وكأن المشاهد شخص غبي لا يعرف الاستنتاج ولم يسمع به.
إن لوحة مهمة ورائعة مثل لوحة «أوهام أبو سلام» فقدت نصف قيمتها الفكرية والنفسية والفنية عندما يقول لنا أبو سلام بسبب خوفه من إهانة الشخص الأخير حتى في أوهامه: لماذا لم يترك لنا فرصة معرفة ذلك بأنفسنا خاصة وأنه واضح.
لقد قال فارس فارس ، الأب مرة وفي محاولة لشرح العملية القصصية مبسطة إن الكاتب الجيد يكتب نصف القصة ويترك للقارئ وفي حالتنا المشاهد كتابة النصف الأخر استنتاجاً. ويكون الكاتب قد أنجز عملاً ممتازاً عندما يضع مفاتيح كتابة النصف الأخر في النصف الأول. عندئذ، يستمتع القارئ بما اكتشف ويتبناه. ومن يدري لربما يجد القارئ في القصة ما لم ينو الكاتب كتابته.

معلومات إضافية

العدد رقم:
165