ماهية الإبداع
يكاد الإبداع، اياكان، يغدو بمثابة اللغز المحير المستعصي على الفهم و التحليل النهائيين، بالنسبة إلى الانسان ، منذ بداية تاريخ الإبداع، والى الآن، وهذا ما حدا بكثيرين منذ القديم لأن يتقصوا أسبابه، ومكوناتّه، وراحوا يسألون: ترى، أو يمكن لأي إنسان كان، ان يجعل من نفسه مبدعاً في ما بعد، بمجرد الرغبة في ذلك، ودون ان تتوافر فيه المقومات التي تؤهله كي يكون مبدعاً...؟!
بيد انه قد تشكلت لدى الإنسان فكرة، أولى، بصدد فهم الإبداع ألا وهي ان الإبداع حالة معقدة، تدخل في تكوينها عوامل تكاد تكون معروفة مثل: الثقافة- الدربة والمران- بيد ان هناك عوامل اخرى سرعان ما تظهر للدارس أثناء التمحيص مثل: الموهبة - الفطرة ـ الذكاء.... ولا نقول: العبقرية...
ولقد تبين للمهتمين بشؤون الإبداع، ان الموهبة وحدها غير كافية كي تخلق إبداعا، وليس أدل على هذا الكلام، من ان كثيرين ممن توافرت بذرة الموهبة في نفوسهم. لم يستطيعوا ان يقدموا إبداعياً أي شيء، لانشغالهم عن الثقافة، وعدم اشتغالهم في مجال موهبتهم، و عدم تطويرهم لها، لعدم وجود ما يعمق هذه الموهبة، ويعززها، بل والدافع الذي ينجح هذه الموهبة، يقول امرسون: الموهبة وحدها لاتخلق كاتباً، يجب ان تكون ثمة مأساة عظيمة وراء الموهبة- ولابد من التأكيد هنا: ان المأساة العظيمة نفسها لاتستطيع أن تشعل فتيل الموهبة مالم تتكئ على ثقافة كافية، بل تجربة حياتية ثرة في الوقت ذاته...
واذا كان امرسون يشير الى ضرورة المأساة ،كي تتفتق الموهبة، وتحلق عالياً في سماء الإبداع، إلا انّ اتساع دائرة المعرفة لدى المرء: مبدعاً أو غير مبدع؛ يدفعه الى لجة المأساة، والتلظي بالهبتها المستعرة دائماً،.. هو ذا هوراس يقول: «كلما ازدادت معرفتي ازدادت أحزاني »ولعل هذا ما يذكرنا بقول الشاعر العربي: ذو العقل يشفي في الجحيم يعقله.... واخو الجهالة في الشقاوة ينعم.
ورغم اننا نجد بين ظهرانينا على الدوام- الصورة المستنسخة- عن الابداع، هذه الصورة التي تقدم ذاتها- غالباً- على انها تمتلك من المقومات ما لايملكه النص الابداعي الأصيل ـ للأسف، ولعلنا جميعاً، وتحت سطوة دوافع شتى- نطوب هذه الأسماء الزائفة، ظناً منا بأنها سوف تستطيع اتخاذ المسار الصحيح، بيد انها وبأسف- تكمل طريقها في المدارات الخاطئة، ولعلنا نتذكر هنا ماقاله شكسبير ذات يوم: بعض الناس يولد عظيماً، وبعضهم يحقق العظمة، أما بعضهم الآخر فيجد العظمة تلقى على كتفه..!!، وكأني بـ -شكسبير- يتحدث عن أدعياء - اليوم - ممن حلموا في أحد مساءات مراهقاتهم أن يكونوا شعراء، وكتاباً، وروائيين.. و..، وبعد أن قرأوا كتاب- كيف تصبح مبدعاً في خمسة أيام؟ـ الذي تطوع كثيرون منا وكتبوا فصولاً منه، دون أن يدروا، فتحقق لهؤلاء ما أرادوه، وكل ذلك تم في غياب المعيار النقدي الدقيق، والمضي خلف أهواء العاطفة والنوايا الطيبة..!
عموماً، ان حصيد الابداع في كل طور يظل- على صعيد آخر- ذلك المعيار- الذي يمكن الاحتكام اليه أثناء تتبع مراحل التطور في سائر المجالات، فهو العلامة الفارقة بالنسبة إلى أية تجربة شخصية، أوعامة، وهو دليل عافية في حياة الشعوب أيضاً، وأن غيابه يجعل الحياة قاحلة، عجفاء، لا مسوِّغ لها، وهو بالتالي ذلك الخيط الذي يجعل هذه الحياة جميلة، جديرة بالعيش.. كما قال ذلك ناظم حكمت ذات يوم..
رغم انه لا يمكن الاطمئنان النهائي إلى تحليل ماهيته مخبرياً، لمعرفة سائر عوامل تكوينه، ذلك لأن هناك بعض مثل هذه العوامل يبقى في الجانب المعتم، أثناء التحليل، بعيداً عن متناول أية دراسة دقيقة..؟
■ إبراهيم اليوسف
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.