حسني هلال حسني هلال

ثمة مكان آخر.. ورسالة أخرى

لئن حضرتني الآن، بضع أغنيات، وضوعها الوطن، مثل:
«من قاسيون أطل يا وطني» لدلال شمالي..
«سورية يا حبيبتي» لمجموعة مطربين ومطربات..
«شام أهلوك أحبابي» و«شام المجد» لفيروز..
فما أكثر الذين يتغنون بالوطن، وما أقل الصادقين منهم!
ما أكثر المخلصين للوطن، وأقل المشمولين بعطفه ورعايته!

معنى ومعنى

لعل «وطن» هي من الكلمات، الأكثر تناولاً وتداولاً وتبانياً بين الناس، فلو صرفنا النظر، عن المعنى القاموسي البسيط والمباشر لمفردة وطن. لوجدنا أن:
هناك من يختصره، بمكان مسقط رأسه «حيه.. قريته.. مدينته»..
من يحصر وطنه، بالدولة التي ينتمي..
وهناك، من يعتبر أن تلك القطعة من الطبيعة. حيث الأحبة والعمل والحرية والاحترام. هي وطنه.
وحسب الاعتبار الأخير، يصير من غير المستغرب ولا المستهجن. أن يمتدوطن أحدٍ ما، إلى خارج جغرافية بلده، وابعد من حدود أقاربه. ولا أن ينحسر وطن أحدٍ آخر، ويتلاشى به، داخل بلده.
بيد أن، لا امتداد الوطن، أبعد من جغرافية البلد وحدود الأقارب. ولا انحساره عنهما. يتعارض، مع ما يذهب إليه صاحباً:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى           وحنينه أبداً لأول منزل
و نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى                 مالحب إلا للحبيب الأول
لأن باستطاعة الحنين والحب، كعاطفتين نبيلتين، أن تأخذا بشغاف القلب. سواء أكان صاحبه مغترباً مهاجراً، يرفل بثياب الصحة والكرامة، بعيداً عن أرضه ولغته. أم غريباً مقيماً، تتعاوره غوائل الزمن وغيلان السلطة والسطوة، في عقر داره، ووسط أبناء جلدته.

 وطن ووطن

متعددة هي الأوطان.. متشابهة ومختلفة. تعدد وتشابه واختلاف بني البشر أنفسهم. فهي حين قد يتجلى الوطن، لفلاح أو لعامل، بأسرة رضية وأرض وفية، توفران له والعمل والأمل والكفاف.. فقد لا يتصور فنان أو أديب، وطناً، من دون ملهمة ولوحة وقصيدة.. ولا يهدأ لمستغل أو لمتاجر، بال. في وطن لا سبيل فيه لاكتناز طوائل الأموال والأعوان والأملاك، واحتكار عوائل المتعة والبذخ والترف.. وقد لا يرضى حاكم متحكم، بأقل من وطن، يطوب له البلاد والعباد!

فهم وفهم

مما سبق ومن سواه، يتبين لنا أن ليس من السهل، الإحاطة بالوطن، فهماً ومفهوماً، وذلك لا يعود، إلى تعدد وتباين واتساع المعنى، بحسب ثقافة كل فرد، وزاوية رؤيته ومنطلقه الفكري و... و.. بل ولتغير وتعدد الرؤى، للفرد الواحد، من حال أو ظرف ما، إلى حال وظرف آخر، ايضاً. حتى ليغدو بالإمكان، تشبيه الوطنية أحياناً بالهوية. من حيث تطورها الدائم وعدم نجوزها. فمثلما لا تقتصر الهوية، على اللغة والتاريخ والجغرافية والاقتصاد والفكر والطموح، بل تستمر بالتغير والتطور ــ ولو ببطء ــ لتبقى أبداً قيد التحقق. كذلك هو الأمر، بالنسبة للوطنية. إذ لا يمكن تأطيرها، بأرض وسماء وماء، وبشر وحجر وذكريات!
 
قول وقول

هناك قول لأحدهم، مفاده:
أن لكل إنسان وطنين، وطنه الأم، وسورية. وبقدر ما يثلج هذا الكلام، بل هذا الشعور، صدر سورية ويسعد ناسها. بقدر ما يحز في نفوس أبنائها المخلصين ومحبيها، ما تقاسي سورية اليوم، وما قاست لسنة مضت، من ويلات ومصائب وفقد وخسران. تقول فيه الأجيبة أنيسة عبود:
«.. اعتدنا أن نرى دم أبنائنا يسيل مع المطر ويلون الثلج، ومع ذلك نطبق على صراخنا وقهرنا ونقول هذا لأجل الوطن (...) ولكن الذي لا نريد الاعتياد عليه هذه الفوضى وهذا الفساد المستشري الآن على الرغم من الظروف القاهرة للبلد..»
أما الزميلة فادية مصارع، فتقول مودعة عاماً مضى، على المحنة التي اجتاحت سورية، ولما تمض بعد:
«.. عام مضى، ونحن نكتب بنزيز أرواحنا ونزيف قلوبنا، عن الحملة المسعورة والمؤامرة الكبيرة التي استهدفت بلادنا. عام مضى ونحن نغمس أقلامنا في أعماق جراحنا، ونستمد كلماتنا من مداد الأرض، لنكتب عمن سرقوا أحلامنا وقتلوا أحباءنا (...) من آذار إلى آذار ونحن بانتظار سنونوة واحدة تبشر بقدوم ربيع لا قتل فيه ولا تدمير ولا تخريب ولا إرهاب..»
وكأني بوطننا سورية أسمعه «عبر ناسه وشمسه وقمره ومطره وترابه وشجره وطيره ونباته» يصرخ بنا جراء الأزمة/الكارثة، التي تمخضت عن إزهاق آلاف الأرواح من البشر، عدا الجرحى والمفقودين والمعتقلين والمهجرين. والدمار الذي حل بالنشء والمنشآت وبالأبنية والبنى. كأني بالوطن يستصرخ ضمائرنا قائلاً:
كفى يا أبنائي.. كفى اقتتالاً أيها السوريون.. لن يكون فيكم غالب ومغلوب ولا منكسر ومنتصر. فكلكم خاسر وكلكم مغلوب. كفى إهراقاً للدماء.. خرقاً للنواميس.. وتسفيها للشرائع والأديان.. وثمة للاستشهاد مكان آخر ورسالة أخرى!