النديم  بوترابة النديم بوترابة

الكون المغلق

 يقف على شفير هذا العالم، ينظر إلى الهاوية بهدوء قديس، ويرنو للبعيد بثقة عرّاف،  وصفه «افريم كارانافيلوف» بأنه (طلعة بطولية جميلة) ... إنه «الدون كيشوت»،  الرواية التي يظن المرء أن بطلها قد أكمل تجواله خارج حافاتها،  مسافراً محارباً متتبعاً أعداءه الدغمائيين  والجشعين  والوضعاء الخانعين،  بيقين فروسيته وحدها،  برحم هذا المفهوم الفروسي لل«دون كيشوت»  عدّ هذا العمل السردي الأفضح شبهاً  بالماهية الإنسانية لقدرته اللامتناهية على خلق القراءات المختلفة وللتأويل الذي يفيض من حوافه جميعها مع وجود الحبكة العملاقة المدججة بجيش العلامات والتنبؤات والحكاية اللذيذة التي طعنت الفكر الأدبي والتاريخي في غرابة  اختلاقها.

لكنّ هذا الغنى السردي المحيّر حاز نشاطه من سرِّ أُودع فيه وهو كتابته للحماقة الإنسانية في ضعفها ووهم مثالياتها حتى أصبح هذا «الدون دي لامانشا» مرضاً بالأدب و أباً للحكاية، لذلك كثير من المدونات احتفت بهذا القديس الفارس لكن هذه المدونات عينها لاتيأس تسأل كل نصٍّ غضٍّ عندما تباغته في برهات من إلوهيّته و اكتماله عن الأوشام التي لدغتها حذوة ذلك الفارس في جلده، إذاً، فهل يستطيع البشر أن يكتبوا غير «الدون كيشوت»؟ غير ذاتهم المصنوعة من حلم المثالية والحماقة والنبالة؟، أو هل سنسأل المستحيل عن نص غير ملوث بالذات الدون كيشوتية؟، هل هناك سر غير الحصان الأعجف و صاحبه اللاهي في شهوة أمنياته؟
هل «الدون كيشوت» حقاً مرض في الأدب يصعب اجتثاثه؟... الإجابة تكمن في الأدب نفسه فالأدب هو الكتابة، والكتابة فداحة الذات في سرد جوهرها وأيروس الكائن الأنصع، لذلك فالأدب ملوث بالإنسانية التي خطّت هذه الرواية ولن يفرّ من سجنه ولن يملك أمراضاً لأنه التمثل الأرحب للعميق، وخلوه من الآفات في منفاه الإنساني، نجاعته ضد من يتهموه بالتماسخ والتناسخ (اتهم الأدب أيضا بإيوائه الفلسفة كخلايا ميتة فيه، لكنها ظهرت في أعماله العالية فلسفته هو _ فلسفة أدبية _ كما يجترح الفيلسوف بيار ماشيري).
يبدو في هذا المتحيّن التصاق الرواية الإسبانية بسر الأدب والتأويل، فسر الأدب يكمن _ بحسب التفكيكية _ في (نصيّته) الموسومة والمرهونة بالاختلاف والإخلاف حيث أدبيَّة النص ومتعته في اختلافه وتفرده وفي إخلافه وتشتيته لأي قراءة  نهائية مقفلة، لكن بعبور «الدي لامانشا» صعوداً في بوح النصوص، قبض قليلاً على سجيَّة التأويل على نحوٍ دفع المؤولون لإثبات ملامحه في مضموم النصوص الوليدة.
إذاً فلن يتبرأ الأدب مهما امتهن الإختلاف والتجديد والتغريب من صمته الإنساني وحماقته النبيلة، ولهذا ف«الدون كيشوت» بوصفه حلماً بشرياً  ليس مرضاً في الأدب بل هو قرارة، سراً ما ورائياً حين لا خفيّ بعده، ونتوؤه الصخري في وجدان الرواية نبوءة، ليصبح كأي نبي وكأي كتاب يسرّحُ في نصه ميثولوجياته ثم يهرول للخلود... يقول «ماريو فارغاس يوسا» في هذه الرواية : «متاهة حقيقية من الأنواع الأدبية والشخصيات والمفاهيم والأزمنة والأمكنة، أبعاد تتكاثر إلى ما لانهاية لتعكس في تنوعها الفائق تعقيدات الحياة الإنسانية»، لذا سيبقى الكتَّاب على حذر طويل تجنباً للفظ هذه المتاهة التي تتمادى عن الرواية بأبعاد لا تتكاثر _ بلانهائيتها _ إلا باتجاه الغوص في مستورنا ومسكوتنا ونصوصنا، ولن يرضى هو انبعاثه وقيامته إلا في التجارب الأصلية منها.
يضيء «ستيفان سنيفر» هذا الخصوص في مقالة مترجمة لمَّا يكرِّر سؤال الفيلسوف «وليم تشاب»: (هل نحن حقاً تنويعات دون كيشوتية من السرد؟)
ليربط الرواية بثالوث مرعب هو مفهوم الحكاية والذات و«الدون كيشوت»، منبِّهاً إلى أن الحكاية نكتبها في نصوصنا وفي واقعنا ثمَّ نقتلها لنكتبها من جديد، غير بعيدين عن ذهن ذلك العجوز الذي انهوس في حكايات الفروسية حتى كتب الحكاية كلها، وأما نحن اليوم فوجودنا وحكايانا تكرار لوجوده وحكايته، يحيلنا هذا التفكر إلى أن الكتابة في السرد، استرسال في ثنائيّة متضادّة، ففعل الكتابة بتمامه وكما قرأه «دريدا» مراوغة لموسم الموت والفناء، فالكتابة تحدٍّ للعدم،  لكن الكتابة بالسرد _ بعيداً عن خلقها لفضاءاتها، وبعيداً عن ألعاب اللغة والسيميائيات حيث الكل يقلِّب سردياته و خيالاته وواقعه السيسيوثقافي _ تحكم آن ولادتها على دلالتها ومتخيلها في جوفها بالموت العاجل لتورّطها دلالياً وتناصياً مع «الدون كيشوت»، وكأن كلَّ ما سيسرد عبارة عن تشكيلات لونية أفقيّة، وكون مغلق لسرد الرواية الإسبانيةالأم التي لا حكاية بعدها.