الإله «شيع القوم»
ثمة إله قديم من آلهة الأنباط ورد اسمه في النقوش بعدة أشكال: «شيع هقوم، شع هقم، هشع هقم، شيع ها قوم، شيع إلقوم» (علي، د. جواد، المفصل1970، ج3). وقد درجت كتابته اسمه هكذا: «شيع القوم»، وهذه الطريقة في كتابته تعكس، في الواقع، تفسيرا محددا لاسمه، يمكن للمرء أن يقبله أو لا يقبله.
وهذا الإله إله لا يشرب الخمر. فقد جاء في نقش نبطي: «هذان الهيكلان أقامهما عبيدو بن غانمو... لشيع القوم، الإله الطيب المجازي، الذي لا يشرب الخمر» (ديسو، رينيه، العرب في سورية، 1985، ص 145).
وقد قيل الكثير الذي لا معنى له عن عدم شرب هذا الإله للخمر من قبل الباحثين الغربيين. إذ افترض هؤلاء أنه إله يمثل بدوا محافظين لا يشربون الخمر. وهذا تفسير أكثر من ساذج حقا. وترى الغالبية أنه إله للقمر، يحرس القوافل ويرافقها: «الإله شيع القوم المعروف كإله للقوافل كان أحد الآلهة المعبودة عند الأنباط» (الذيب، نقوش الحجر، 1998، ص67). ولعله ربط بالقمر بناء على ربط الجزء الأول من اسمه (شيع) بالجذر (شع) العربي الذي يعني أضاء. أما ربطه بالقوافل فيبدو أنه ناتج عن أن هذا الجذر يعني المرافقة واللحوق والمتابعة. ومن هذا جاء تعبير تشييع الموتى، فالناس تتبع جنازة الميت لتودعه. وقد افترض الباحثون، في ما يبدو، أن شيع القوم- القمر يرافق المسافرين في رحلاتهم الليلية.
لكننا نعتقد أن «شيع القوم» ليس إلها للقمر، وأن الجزء الأول من اسمه (شيع) يعني (الشِّياع) بالعربية، وهو مزمار الراعي على وجه الخصوص. لذا نفضل أن نقرأ اسم هذا الإله على أنه «شياع القوم» وليس «شيع القوم»: (قيل لصوت الزمارة شياع، لأن الراعي يجمع إبله بها... قال ابن الأعرابي: الشياع: زمارة الراعي) (ابن منظور، لسان العرب). وقال الشاعر: حنين النيب [النوق] تطرب للشياع.
وإذا صح هذا، فربما كان علينا أن نفترض أن الجزء الثاني من اسمه (القوم) لا تعني الناس، القوم أو الشعب، بل هي مأخوذة من جذر نبطي مساو لجذر (قمأ) العربي، بمعنى صغر وضؤل. أي أن اسم الإله هو (شياع القمء) أو (شياع القم) بالتسهيل، وليس (شيع القوم). وهذا يعني: المزمار القميء الصغير، أو المنفاخ الصغير، الشياع الصغير، أو الصوت الصغير. أي الصوت الذي يمثل النغمة الخفيضة الواطئة، نغمة القرار، في مقابل المزمار، أو الشياع الكبير العالي النغمة.
وقد قارن بعضهم، عن حق، بين شيع القوم وبين إله يدعى ليكورج: (وصف لنا نونوس الشاعر المصري {القرن الخامس الميلادي} الحرب الشعواء التي شنها ملك خرافي من ملوك العرب يدعى ليكورغ... على ديونيزوس إله الخمر عند اليونان... ويبدو أن مقابلة هذا الإله الإغريقي بالإله شيع القوم تعد مقابلة لا بد من الأخذ بها. لكن كيف بدّل الاسم العربي حتى أصبح ليكورج؟ من العسير أن نبدي رأيا قاطعا في ذلك) (ديسو، رينيه، العرب في سورية، 1985، ص 146).
ليكورغ (ليكورجوس) العربي، إذاً، عدو ديونيسوس الخمري، أي أنه عدو الآلهة الخمريين، آلهة النغمة الصيفية العالية. وهذا يعني أنه إله لا خمري مثل (شيع القوم). فهو ليس شريب خمر مثل ديونيسوس. ونحن نستطيع أن نعثر على أصل اسمع العربي. فجذر كرج العربي يعطي معنى الخبز: (الكارِج: الخبز المُكَرَّج، يقال: كرجَ الخبز وأَكرج وكَرج وتكرج أَي فَسد وعلاه خضرة) (ابن منظور، لسان العرب). ويضيف الأزهري عن ثعلب عن ابن الأعرابي: (الكارج: الخبز المكرّج، يقال: كرج الخبز، وأكرج، وكرّج، وتكرَّج) (الأزهري، تهذيب اللغة). يضيف ابن فارس عن الخليل: (عشّش الخبز، إذا كرَّج. وقال غيره: عشّ فهو عاشّ، إذا تغير ويبِس) (ابن فارس، مقاييس اللغة). عليه يكون اسم الإله في الأصل (الكارج) أو (الكراج)، أي الخباز. بالتالي، فهو خبزي لا خمري. عليه، يكون هو وديونيسوس مثل سجيني يوسف في القرآن وفي العهد القديم. فقد حلم واحد منهما أنه يسقي ربه خمرا، أي أنه خمري، أما الثاني فقد حلم أنه تأكل الطير من رأسه، أي أنه خبزي.
والآلهة صنفان: خمري وخبزي. الخمري يمثل الكون في صيفه الفيضي، حيث تفيض الأنهار مثل نهر النيل، وخبزي قمحي يمثل الفترة اللا فيضية، أي الكون في لا فيضه وشتائه. الصيف هو النعمة الكونية العالية الفياضة الحارة الخمرية. وممثله هو المزمار العالي النغمة. أما الشتاء فهو النغمة الواطئة الباردة القمحية، ومزماره هو المزمار الخفيف النغمة، أي شياع الراعي، أو «شياع القمء» النبطي.