أيتام هنتنغتون!

أيتام هنتنغتون!

كتب صاموئيل هنتنغتون عام 1996: «إن الثقافة أو الهويات الثقافية، والتي هي على المستوى العام، هويات حضارية، هي التي تشكل أنماط التماسك والتفسخ والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة» 

وكالعادة مع أية نظرية تصدر عن المركز «الحضاري» الغربي، تلقف المثقف الدوني، الاغترابي، التابع، في بلدان الرأسمالية الطرفية، هذا الفتح الفكري الجديد، بحماس منقطع النظير، وراح يرسم رؤاه، ويصيغ خطابه الثقافي – السياسي على أساس أن الصراع القادم هو صراع ثقافي - حضاري بلا جدل، في إطار نزعة «التكيف غربياً» الملازمة للكثير من النخب الثقافية في الشرق.

دونية واغتراب المثقف النخبوي، الذي نالت منه عدوى التبعية، ليست وليد صدفة، ولا هي مجرد أمر عرضي، بل هي  في العمق انعكاس لتبعية أكثر إيلاماً، وأسبق بالمعنى الزمني، وهي تبعية النخب البرجوازية اقتصادياً، فكما أن المدارس الاقتصادية الغربية، كانت محج واضعي السياسات الاقتصادية، وكما كانت سياسات« أوامر»  صندوق النقد الدولي «انجيل وقرآن» عبّادي الثروة في المشرق، كان نبش «القمامة» الثقافية الغربية غاية قصوى لهذا النموذج من المثقفين في الشرق، وكان ترويج وتسويق فضلات النظريات الثقافية الغربية الجديدة، الشغل الشاغل لهذه الفئة، في ظل الهوامش الواسعة، التي هيأت لها تفشي ثقافة المجتمع الاستهلاكي، وذلك كله في إطار تأبيد التبعية الشاملة، التي حاول ويحاول المركز الرأسمالي الغربي فرضها على العالم، مستفيداً من، ومتكئاً على عدم إنجاز نموذج الدولة الوطنية لمهامها التاريخية. 

لم تأخذ هذه التبعية الثقافية، طابع المحاكاة المباشرة دائماً، بل أن بعض الشطار  من رهط نموذج هذا المثقف التابع، تمظهر أحياناً بأنه بالضد من مثل هذه النظريات الغربية الثقافية، ولكن سبر أغوار كتابات هؤلاء، وتفحص منتوجهم الثقافي السياسي، يقول عكس ذلك تماماً، حيث تحول طيف واسع منهم إلى مجرد مهرجين على مسرح التطرف الطائفي والديني والقومي، تحت حجج ومبررات واهية، ليصبح كل واحد من هؤلاء مجرد هنتنغتون صغير.

إن كل ترويج للصراع الطائفي، أو العرقي، أو المذهبي، أو الديني، وكل قراءة تعميمية، تجاه جماعة قومية أو دينية أو طائفية، وكل دعوة إلى – أو سكوت على استمرار نزيف الدم في سياق الصراع الدائر في بلدان الشرق، وتحت أية ذريعة كانت، أخلاقية أو سياسية، هي نسخة محلية عن هذه النظرية، والتطبيق «الإبداعي» الملموس لها، ولا يلغي هذه الحقيقة إذا كان رب العباد قد عاقب بعض هؤلاء «المثقفين» بالغباء المطلق، وأصبحوا بمثابة مندوبي مبيعات هذه البضاعة «صدام الحضارات» في جغرافيا بلدان الشرق من حيث لا يدرون.

 دعا هنتنغتون في حينه، إلى محاولة عزل روسيا، واحتواء الصين اقتصادياً، وعدها بمثابة الشريك في الرخاء، لمنع اتحادها مع «الإسلام»، وتفعيل دور دول المركز الضابطة لصراعات خط التقسيم الحضاري في الأقاليم، واتباع هذه الدول المركزية بمركز النظام الحضاري «الحضارة الغربية على حد وصف النظرية»

لا نأتي بجديد عندما نقول، بأن هذه النظرية التي ظهرت مع ملامح أزمة المركز الرأسمالي الغربي، هي أيديولوجيا الفاشية الجديدة، وهي مشروع ثقافي - سياسي استباقي، متكامل مع المشروع الغربي الكلي بشقه الاقتصادي السياسي والعسكري، وإذا اعتبرنا قوى التطرف في الشرق أدواته وحوامله العسكرية العملياتية الميدانية، في ظل تكتيك الصراع البيني المتبع في بلدان المنطقة، فأن دواعش الثقافة، والذي يعبر عنهم نموذج المثقف التابع، هم حوامله الثقافية الدعائية الإعلامية، وإن تواروا خلف مصطلحات المدنية، والحداثة، والوطنية، وحقوق الانسان، والثورة...

سنلوي عنق الحقيقة، إذا قلنا بأن نظرية «صراع الحضارات»، لم تترك تأثيراً، ولكن سندفن الحقيقة كاملة إذا قلنا بأن اتجاه تطور الأحداث يمضي لصالح تنبؤات هنتنغتون، فالمركز «الحضاري» الغربي الذي يجب أن تخضع له المراكز الحضارية الأخرى كلها حسب هذه النظرية، بات مرتبكاً، وبات تراجعه أمراً مسلماً به، وبناه ومؤسساته تتصدع، والمنتج الثقافي الأبرز له هذه الأيام مجرد هيستيريا إعلامية، الأمر الذي يعني أن هنتنغتون الممسوخ في نسخته الشرقية، بات يتيماً وبرسم من يريد أن يقوم بواجب العزاء.