جولة عاثرة.. للبحث عن مهرجان دمشق

كما في (مهيرجاناتنا) التي لا يتجاوز عدد المشاركين فيها عدد المنظمين لها، أطلقت محافظة دمشق مهرجانها العاشر للثقافة والتراث. والمهمتان المنوطتان بالمهرجان لم تكونا بالمهمتين القليلتين: إحياء التراث الدمشقي وحمايته. ومع ذلك بدا مهرجاننا هذا عاجزاً عن إقناع الواقعيين من منظميه، بل حتى المتفائلين منهم بأنهم ليسوا أمام مهرجان مكاتب، خاصة وأن فضائيات العالم ما زالت تؤكد لهم أن لكل مدينة قديمة مهرجاناً يؤسس لاستمرارية قدمها. فكيف إذا ما كانت دمشق .. إذا ما كانت الأقدم؟

هذا بالطبع لا ينحو باللائمة على ساكني الحارات الدمشقية، ولا على روادها، ولا على لجان وجمعيات تستقتل من أجل حمايتها، ولا حتى على محافظة دمشق التي غاب محافظها عنها على أعقاب التشكيل الوزاري الجديد، بل هي حكاية قديمة ربما تبدأ مع مخططات المهندس الفرنسي ايكوشار في ثلاثينات القرن المنصرم ليكتب لها الاستمرار على أيدي مقاولين استحلوا المدينة بمائها وهوائها وأسوارها وبيوتاتها، وقسموا دمشق إلى وحدات سموها مقاسم لتعني المقاسم في ما بعد عقارات، ومن ثم أبراج اسمنت، وها نحن نبحث اليوم عن حجر جليل أو عرق أخضر في المدينة المتشحة بالسواد.

اسطنبول الصغرى

هكذا كان اسمها كما يخبرنا العم أبو نايف(محمود الموصلي)، بياع العصافير في سوق ساروجا :

«سموها كذلك لما كانت عليه من قدم وجمال وليس لتعاملها مع العثمانيين»، من يدنا يقودنا أبو نايف لنكتشف يداً ما زالت تحلم بترسيم حدود ما تبقى من الشام ، حدود ذلك المركز الذي ابتلعته الأطراف وشقت طرقها فيه. وأبو نايف أحد أهالي ساروجا القدامى و رئيس جمعية تعاونية أسسها أصحاب محلات السوق كي يمنعوا من اشترى محالهم (مقاسمهم) بأبخس الأثمان من هدمها وتهجيرهم منها وهو كذلك من المساعدين على تنظيم مهرجان التراث الذي خص ساروجا بيوم من أيام فعالياته. «ساروجا قبل أشهر كانت ما تزال أسهماً مباعة للتجار  وهي تشارك بحماس لسبب ربما يتعلق بالدفاع عن البقاء، فقرار حمايتها صدر عن رئاسة مجلس الوزراء، ومع ذلك لم يكف القرار الأخير لطمأنة أهالي الحي الذين ينتظرون مرسوماً رئاسياً بهذا الخصوص، فالتجار كانوا قد أخذوا أحكاماً قضائية بهدم السوق عدا عن أن استملاك الحي أتى بمرسوم جمهوري». والرجل الذي يحدثك طويلاً عن (الهجمة الثقافية على شعوبنا ) وعن (خطر العولمة) يرى في كل مدمر لحجارة  دمشق  «صهيوني، وأبشع من الصهيوني»:

«هنا بيت آل التكريتي، وهذه التشكيلات المعدنية من صنع النحات مروان مكاوي ابن ساروجا وواحد من ثلاثة فنانين شاركوا في مهرجانها، انظر إلى هذا التمثال، رجلاه رجلا أسد وجناحاه جناحا صقر ورأسه كما رأس حمورابي ويشهر بإحدى يديه سيفاً وبالثانية يحمل ميزاناً وحينما سألناه عن أحوال السيف والميزان أخذنا إلى فندق الربيع المقابل لبيت التكريتي:

«الحي متروك منذ ثلاثين سنة وأكثر، ثلاثون سنة يدمر الحي فيها أمام أعيننا ولا أحد يلتفت. هذا الفندق كان يسمى بيت السماوي، وفيه انعقد أول مؤتمر وطني في دمشق إبان الحكم العثماني للتخلص من هذا الحكم والثورة عليه، قبل جمعية الترقي وغيرها..مئات  السياح يقيمون في الفندق ويهربون من ضجيج الميرديان».

الجوزة المكسورة:

هنالك في ساروجة ما يدعى بحمام الجوزة، وهو حمام يزيد عمره عن تسعمائة وخمسين عاماً وقد أقيم في حمام الجوزة معرضان، أحدهما للفنان نبيل بيرة الذي يقول عنه أبو نايف «عصرو بيطلع شامي»،  ولمصور فوتوغراف (جورج عبيد) تجول على دراجته خمس سنوات في حارات الشام ليصور بكاميرته الأثرية أبواب دمشق وبوابات منازلهاالمفتوحة دوماً على الداخل.

الخواجا جورج الذي يعرف طليطلة الاسبانية كما دمشق السورية كما الفرق ما بين المدينتين، ضم مشروعه الفوتوغرافي بالأبيض والأسود أكثر من مائة باب منزل في دمشق وعدد مماثل  لأبواب أموية في طليطلة لم يتسع حمام الجوزة لعرضها جميعاً فعرض جزءاً منها:

«أردت تسليط الضوء على الباب الدمشقي الذي يتهدده الزوال، وتختفي عناصره من حياتنا، أردت مقارنته مع أبواب طليطلة التي كانت عاصمة العرب في الأندلس.. الإسبان يداومون على حماية تراث طليطلة وأبوابها السبعة وسورها، ونحن نخلع أبواب الخشب ونستبدلها بقباحة الحديد».

علمنا من الخواجا جورج أن الأمويين بنوا طليطلة على شاكلة دمشق تماماً وعلمنا كذلك الفرق ما بينهما: إذا أردت رؤية طليطلة فاذهب إلى طليطلة أما إذا أردت رؤية دمشق فاذهب أيضاً إلى طليطلة!

جثث دمشقية:

نبيل بيرة لم يرسم حارات ساروجا فقط، بل مناطق أخرى كانت تنتسب فيما مضى لساروجا أو للشام القديمة وقد بتنا نسميها اليوم: شارع النصر، شارع الثورة، سوق الخجا، المركز الفرنسي، شارع بغداد، فنادق المرجة، فنادق البحصة، خازوقي شركتي الخليوي، وعشرات من جثث المدينة التي سيستحيل دفنها ما لم يدفن الدافنون أحياءهم تحت اسفلتها.

على باب الجوزة وحيث يقبع ضريح قديم يرمي المارة من وراء شباكه قطع نقود يلملمها جباة وزارة الأوقاف كل سنة دون أن تعرف الأوقاف نفسها من صاحب هذا الضريح، كانت تقف لونا رجب رئيسة لجنة حماية المدينة في جمعية أصدقاء دمشق وهي المهندسة المتحمسة دوماً لهزيمة الأبراج والاسمنت وهي تقول لنا:

«قاعة الكباريتي قاعة أثرية مسجلة على لائحة التراث الوطني.. سقطت.. راحت.. انتهت.. حمام الجوزة حمام أيوبي قديم وبحاجةإلى ترميم، سقطت قبته منذ سنتين أيضاً، كلمة حماية لا تكفي وحدها وسيبقى القرار حبراً على ورق ما لم تتم عملية الإحياء والترميم ،هناك عدة اقتراحات مقدمة في هذا المجال منها المخطط الذي أعدته كلية العمارة والموجود حاليا في المحافظة».

  للعموم..

لم نتجول في سوق ساروجا بغية اجتراح مفاجأة، إلا أن المفاجأة كانت تنتظرنا في بيت محمد بيك العابد، أول رئيس للجمهورية السورية: مستودعات أحذية في البيت السياسي الدمشقي، وأحدهم سرق البحرة التي كانت تتوسطه، كما احترقت فيه غرفة عمر أثاثها يناهز الأربعمائة عام، الحريق وكما علمنا كان في منتهى البراءة وهو ليس من فعل المقاولين بل من فعل الماس الكهربائي، ولربما كان من فعل السماء. علمنا أيضاً أن بإمكان الماس الكهربائي هدم قلعة أثرية دون أيما تصريح من أية محافظة ودونما دفع ثمن طابع واحد.

مفاجأة أخيرة سوف تجرنا إليها حواري  اسطنبول الصغرى ولكنها سارة هذه المرة، حتى كدنا نعتقد أننا وجدنا مهرجان المدينة المفقود: تواليت للعموم يتوسط الحي ويخدّم المارة والجوار فيه ويذكر كل انسان بحقه في أن يتبول بمنتهى الاستمتاع والحرية. إلى هذا الصرح الحضاري دخلنا وبدأنا نتذكر: 

■ ايكوشار الفرنسي

■ الغوطة البائدة والاسمنت المسلح

■ بردى المرصوف كما النفق

■ البيوت التي على حافة الانهيار

■ وساروجا المنتهكة حد المأساة

ربما لذلك كله كنا أمام (مهيرجان)..

 

■ المحرر