توماس مان... إعادة اكتشاف
ترسم معظم أعمال توماس مان بصورة فنية حالة الانحطاط خصوصاً على مستوى الفن ويغلب عليها طابع الخسارة والانهيار والسقم وتشكل شهادة مهمة عن الغرابة والمرض وعدم المساواة التي تعانيها شريحة واسعة من المجتمع الذي عاش وسطه ورغم منبته البرجوازي إلا أنه كان من أشد المنقلبين على البرجوازية وقد كان يرى في الاشتراكية خلاصاً للمجتمع منها التي يمثل ذروة انحطاطها انتصار النازيين...
ففي الحادي والعشرين من أيار عام 1945 كتب مان قبيل موته أنه أودع مذكراته موقد المدفأة وأحرق جزءاً مهما ًمنها أثناء وجوده في كاليفورنيا كما أحرق ما أنتجه حتى عام 1933 لكن خوفه من المذكرات وعليها ازداد عندما غادر ألمانيا النازية من دونها وخشي أن تقع في أيدي «الغستابو» بعد تسلم هتلر السلطة وتمكن بمغامرة عجيبة وبمعونة بعض الأصدقاء من نقل جزء منها إلى سويسرا ومن هناك حملها إلى الولايات المتحدة وعندما تبين له أن بعضاً منها لم يكن مهماً أحرقه.
وتوماس مان الذي كان أديباً بامتياز وأحد أهم شعراء المعنى المرهف ويتمتع بإرادة صمت قوية... حاول أن ينقذ نفسه من غربتها عن طريق الفن فلجأ إلى ممارسة الرسم هرباً من القلق والمعاناة التي لاتشفى واللافت في حياته صراحته المفرطة التي ميزته عن غالبية المثقفين الذين اعتبرهم جبناء وهذا ما عبر عنه في قصته «موت في البندقية»
وعرف عنه انحيازه التام للفقراء وكان يفاخر على الدوام بمواقفه المؤيدة للعمال خصوصاً خلال تجواله في أوروبا وأمريكا وكانت النخبة المثقفة التي ينتمي إليها هدف سخريته وتعتبر أعماله الروائية وقصائده نابعة عن رفضه للظلم مع معظم أعمال جيله «أندريه جيد وفون باتينس وبازوليتي».
هاجر إلى الولايات المتحدة قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية وشغل منصب أستاذ في جامعة برينستون وخاض من منفاه الاختياري معركته ضد النازية واعتبره جورج لوكاش «نموذجاً للكتاب النابعة عظمتهم من كونهم مرايا العالم» فقد كان أدبه صورة عن العالم الممزق القلق المرعوب حيال صعود الظاهرة النازية.
واليوم نستطيع أن نضحك من توماس مان دون أن يتبدد إعجابنا به وبمواهبه المتعددة التي سخرها جميعها لخدمة هدف واحد هو «العدالة» لقد كان ممثلاً حقيقياً للجرأة في سابقة لم تتوفر في الوسط الثقافي في تلك الفترة.
إنه باختصار توماس مان ولن يكون أي شخص آخر إنه دراما الجسد والروح وسينتهي تماماً مثل بطل قصة «موت في البندقية» مدمراً معدوماً لايتذكر ماضيه إلا ليمجده ولا ينظر إلى حاضره إلا بعين فزعة ومتشائمة، إن توماس مان خليط من شوبنهاور مقترناً بطغيان الموت وهيبة العدم ومن رهافة خارقة ورثها عن نيتشه وموسيقى ساحرة وإثارة عاطفية مأخوذة من فاغنر إضافة إلى بروتستانتيته التي علمته حسن الواجب.
■ م . أنزو