لقمان ديركي في «الأب الضّال» تفاصيل عابرة بلغة هادرة

لايمكن قراءة الشاعر السوري لقمان ديركي بمعزل عن (الأب الضال) أخر ديوان شعري صادر له. هذه القراءة التي تعمل على وضع الشعر كأحد وسائل المعرفة، بدل أن يكون من وسائل الترفيه العابر. وهو مدرك خطورة أن يكون الشعر معرفة الداخل و ليس معرفة الآخر، لهذا فكل مقطع من مقاطع «الأب الضال» يتوجه إلى الأخر لكن بشرط الداخل العميق الذي يمثله شخص لقمان وليس كائنا أخر.

يقّدر لقمان أن يكون أكثر ترفا وبذخا لو اخرج من داخله هذا اللعين والمشاكس، هذا الطنين المجنح الذي يدعوه دائما إلى ذاته (ذات الشاعر التواقة إلى التبعثر).

وإذا كان الشعر هو دعوة إلى التنصت إلى الداخل والغور فيه، إذا كان الشعر زورق لعبور هذا الألم الدفين الذي لايمكن الاستغناء عنه (الم الداخل دائما) فان لقمان أكثر الشعراء الذين يهربون تجربة الداخل إلى نصه بخصائص الداخل نفسها من (الم هادر) و كراهية عابرة ولمسة حنان مجبولة بأسى:

نفسي من أرى في المرآة

وإذا وقعت من طابق عال

لن يخاف علي احد سواي

وإذا سقطت

فلن يلتقطني .. سواي

وإذا ملت ستسندني نفسي

وإذا بكيت ستمسح نفسي دموعي

ولن يبكي _ علي بعد ذلك _ سواي.

توصف تجربة لقمان الشعرية بأنها أكثر التجارب الشعرية إدراكا لماهية الشعر ومعناه، و أكثر التجارب التي تضع الشعر مقابل الحياة كمعنى أخر للشعر, و هو الشاعر الوحيد الذي ورث من شعرية الثمانينات (القصيدة الشفوية) بالاضافة إلى أسماء كثيرة لكنها ضائعة بين أن تكون حاضرة (اسما) أو مرتبكة (شعريا) مع أن الباقي منهم (خليل صويلح _ حكم البابا _ محمد فؤاد _ طه خليل ) ما يزالون يبحثون عن مكان أكثر أمنا لترويج نصوصهم التي على ما يبدو لي عاجزة على توفير الأمن و السلامة.

ولو بقينا مع تجربة لقمان الأخيرة والتي استفهمت كيفية الخلاص من الرواسبية السبعينية (الشعرية) في سورية، نجده يقفز بخفة على شفافية بندر عبد الحميد ورؤيوية سليم بركات ويوميات نزيه أبو عفش، ونراه خائفا من سطوة رياض الصالح الحسين على أغلب نصوصه الأولى بدء من (أنت وهؤلاء الناس) و (وقت كاف) و(احد سواي):

هذا أنا.. في المقهى

جالسا على هذا الكرسي و ذاك

هذا أنا.. اشرب القهوة هنا

وهنا ارتشف العصير

وهناك اعبر بخفة خلف الزجاج.

لكن لقمان وهو بهذا الشكل الجديد في نصه (الأب الضال) يحاول أن يدخل السرد الشعري بالروي أو بالوصف الطويل و الممل ليصل بنا إلى جو من الحكايات التي يتقبلها (النثر) عادة في هكذا النوع من النثر الشعري, كأنه يريد أن يكتشف التفاصيل العابرة بأفكار عابرة وهو يملك كل النشاط في مخيلة غنية و هادرة, و يملك قوة الاختراق للنبض الدفين للتفاصيل الحياتية وباستطاعته إعادة الدهشة والمفاجئة إلى نصه بصياغة مبتكرة كما في نصوصه الأخيرة:

إذا جئتك لاهثا

فلا تفتحي يديك لعناقي

وإذا عانقتني

فلا تتركي راسي يسقط على صدرك

امنحيني لذة المتأخر على حبك

لذة الأصابع و هي تتألم بين الأسنان.

إلى جانب إلمام لقمان بالتفاصيل وحكايا التي تجري إحداثها في مكان واحد(ذات الشاعر) فانه يدخل أشياء شخصية بمواضيع سياسية في لعبة دائرية يلعبها الشاعر مستعينا بأدوات لغوية محكمة في إيضاح دائم للمعنى و الركض وراء أحداث يجدها الشاعر مهمة بالنسبة إليه:

نحن الذين قتلنا

ومنعت أمهاتنا من البكاء علينا

فزغردن.. ومنعن من الحداد

فارتدين زهور البراري الصاخبة.

■ (الأب الضال _ شعر) منشورات دار ألف ــ دمشق 2003 (115) صفحة.

 

■ إبراهيم حسو