دروس في التطبيق.. المانوية والتجريبية والديالكتيك المادي

عند دراسة تاريخ أزمات الرأسمالية الكبرى يلاحظ تلازمها مع الحروب، التي ما هي سوى تعبير عن أزمة داخلية مستعصية الحل يجري تصديرها. ويتم ذلك عبر خلق عدو وهمي مفترض في كل مرحلة، هو في الحرب الراهنة «الإرهاب»، أما الهدف المعلن فهو «الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان».
وفي المقالة المعنونة «من ديالكتيك ماركس إلى ثنائيات ماني.. دروس في الميتافيزيقيا» المنشورة في قاسيون، العدد (423) ص11، نجد تحاكياً مصغراً لهذا الأسلوب، حيث تغدو أزمة الرأسمالية هنا أزمة فيض ذاتية مستعصية لمثقف برجوازي صغير، أما العدو الوهمي المفترض فهو «المنطق المانوي»، والحرب «الجعجعة» التي يبدو هدفها الدفاع عن «الديالكتيك المادي» ما هي إلا ستار لدفاع مثقف برجوازي صغير تعرضت إحدى نتاجات «دماغه» للنقد. إن الطابع البرجوازي الصغير للمثقف يتأتى من امتلاكه لوسيلة إنتاجه: دماغه، مما استدعى من هذا الكاتب أن يخرج من جعبته كل أساليب التقويل و«الحربئة» لتحقيق «نصر» فكري مفترض على عدو مفترض.

إن ما تقدم لا يهدف إلى السخرية، وإنما هو ممارسة للمنهجية العلمية الماركسية في قراءة أي طرح، بإرجاعه لجذره الطبقي الاجتماعي، ومن ثم تحليل ما يقدمه هذا الطرح وتبيان تخديمه لمصلحة أي من القوى الاجتماعية المتصارعة.

 

الاصطياد في ماء غير عكرة

إن هدف مقالتنا هو التأكيد على أهمية (الاقتباس هنا من حسين مروة): «النظر إلى صلة العملية الفكرية بعملية التفاعل بينها وبين مجموعة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية السياسية».. فكيف يمكن للإرساليات التي  لعبت دوراً خطيرا بإرساء البنية الرأسمالية التابعة في منطقتنا أن تبذر «بذور التحرر الفكري» من خلال تعليمها لجزء يسير من أبناء المستعمرات «لزبدة العلوم والفلسفة»؟. بالمناسبة إن الجزء الأكبر من خريجي الإرساليات كانوا يعينون وكلاء لبلدان هذه الإرساليات لرعاية مصالحها السياسية والاقتصادية. وكنا قد أكدنا في مقالتنا السابقة على أننا «لا ننكر الدور الذي لعبته الإرساليات بالانفتاح على نتاجات الغرب الفكرية والعلمية منطلقين من الاستقلالية النسبية للبنى الفكرية عن الشرط الاقتصادي الاجتماعي، لكن عدم فهم ديالكتيكية العلاقة بين الثقافي والسياسي في موضوعنا هذا، يقود إلى إعطاء الثانوي دور الرئيسي وتغييب المحرك الأساسي للتحرر الفكري، وإن عدم مناقشة الثقافي بعلاقته مع السياسي، يوقعنا في مطب الميتافيزيقيا من ناحية عدم تناول العوامل المؤثرة بترابطهما».. إلا أن الكاتب لم يجد إلا التضليل والتقويل لخلق عدو وهمي سهل الافتراس لتحقيق «نصر وهمي» وحفظ ماء الوجه.

والآن سننتقل إلى العمق المنهجي الذي يحكم معالجة دور الإرساليات سابقاً ودور المراكز الثقافية الأجنبية حالياً.

 

بين «التنظير» عن الديالكتيك المادي وممارسته

إن المقالة المذكورة شنت هجومها على ما أسمته «القوالب عقلية قطعية الحكم»، وأعلنت معاداتها لـ«أسلوب ذهني معين لامتلاك العالم فكرياً بدلاً من محاولة تحليله»، وإن كنا ندري بأن هذه المقالة أتت رداً على ما نشرناه بعنوان «المراكز الثقافية الأجنبية... رأي آخر»، وأن التجريدات المعرفية «ما أسماه الكاتب بالقوالب» التي حكمت منطق مقالتنا هي دور البنية التحتية والبنية الفوقية في الحركة الاجتماعية والعلاقة فيما بينهما، بالإضافة إلى موقع الدولة من الصراع الطبقي عند الحديث عن دور المراكز الثقافية الأجنبية الحديثة. ولبيان الغث من السمين، وبعيداً عن الشخصنة والذاتية، لابد لنا من العودة لما يفترض أنه من الأوليات في المنهج الماركسي، إلى العلاقة بين الوعي والواقع المادي، إذ تؤكد المادية الديالكتيكية على أن للواقع المادي الأولوية على الوعي في الوجود، لكن العلاقة بين المادة والوعي ليست وحيدة الاتجاه، وإنما هي علاقة تفاعلية، حيث يؤثر الوعي في حركة المادة، وهذا التأثير يزداد مع تراكم المعرفة وتسارع عملية إنتاجها.
إذا ما أسقطنا هذا التجريد على الحركة الاجتماعية «مع الأخذ بعين الاعتبار تعقيد الحركة الاجتماعية وخصوصية قانونياتها»، نخرج بمفهومي البنية الفوقية (جميع أشكال الوعي)، والبنية التحتية (الشرط الاقتصادي الاجتماعي)، أما عن العلاقة بينهما فللثانية الدور المحدد في الحركة الاجتماعية، ولكن البنية الفوقية ليست مجرد انعكاس ساكن عنها، إنما تدخل بعلاقة تفاعلية تؤثر من خلالها على تطور البنية التحتية أو تأخره، لا بل مع تقدم المعرفة يزداد الثقل النسبي لدور الوعي والبنية الفوقية في الحركة الاجتماعية .
إلا أن الفكر الماركسي يعاني من اتجاهين فيما يخص التعامل مع البنية الفوقية والتحتية والعلاقة بينهما، وبالمناسبة هذان التياران يستحضر وجود أحدهما الآخر:

1- الاقتصادوية: وهو التيار الذي يرى في البنية الفوقية نسخة كربونية ساكنة عن البنية التحتية وغير مؤثرة عليها، ما يقود إلى إلغاء دور الوعي في الحركة الاجتماعية كونه دائماً متأخراً عن الواقع المادي.
2- الوعيوية: وهي التي تعطي للبنية الفوقية الدور المحدد في الحركة الاجتماعية، أو على الأقل الذي يعطي ثقلاً نسبياً للوعي أعلى مما هو عليه بمستوى التطور الذي وصل إليه حتى الآن.

إن المشكلة المنهجية التي تعاني منها المقالة المذكورة هي في العمق الوعيوية، التي هي بالمعنى الفلسفي مثالية ميتافيزيقية، حيث إعطاء الدور الثقافي للإرساليات التبشيرية «وعي» الأولوية في بذر بذور التحرر الفكري هو مثالية، وعدم مناقشة هذا الدور بعلاقته مع الشرط الاقتصادي الاجتماعي هو الميتافيزيقيا عينها.


بين المانوية والتجريبية
إذ كانت المانوية تقوم بقولبة العالم ضمن ثنائيات صورية غير موضوعية، فإن نضالنا ضدها هو نضال ضد المعرفة المشوهة عن الواقع التي لا تسمح بتغييره، لكن هذا النضال يجب أن يترافق مع النضال الحاد ضد تيار أكثر خطراً ألا وهو التجريبية التي تنفي إمكانية بناء معرفي نظري حول العالم، وذلك عبر نفيها إمكانية القيام بتجريدات علمية «قوالب عقلية حسب كاتبنا»، هي انعكاس القانونيات العامة التي تحكم حركة المادة والقانونيات الخاصة التي تحكم كل شكل من أشكال الحركة بما فيها الحركة الاجتماعية التي يحتدم الصراع حولها تحديداً فيما إذا هناك إمكانات لتجريدات موضوعية عن القانونيات والعوامل التي تؤثر بهذه الحركة.

المنطق المانوي في التجريبية
إن التجريبية تحاكم محاكمة صورية مانوية فيما يخص إمكانية معرفة العالم، فإما معرفة خالصة ومكتملة ودقيقة 100%، وإما لا معرفة، فالمعرفة كعملية تاريخية غير منتهية «كالواقع المادي غير المنتهي»، وغير المكتملة، والتي تحمل نسبة من الخطأ تصحح بالممارسة تغدو هنا لا معرفة، وتغدو قوالب جامدة يجب الإطاحة بها بدل دفعها إلى الأمام وإغنائها بما يغنينا به الواقع المادي من جديد.

إن المنهجية التي تمت من خلالها معالجة قراءتنا لدور المراكز الثقافية الأجنبية هي التجريبية حيث يريد كاتبنا أن يقنعنا بأن هذه المؤسسات هي خارج التاريخ والصراع، وهي زائدة دودية في النظام الرأسمالي العالمي، ضاربا عرض الحائط بالوقائع اليومية عن دور هذه المراكز، وبالتحليل الماركسي لدور الدولة ومؤسساتها في الصراع الاجتماعي، وذلك طبعاً بحجة عدم التضحية «بكل حركية العالم وتعقيده وتداخل ظواهره»، وبحجة معاداة «حشر العالم في قوالب عقلية ضيقة وقطعية الحكم»، ومعاداة «أسلوب ذهني معين لامتلاك العالم فكرياً بدلاً من محاولة تحليله». فتحليلنا سيبقى محاولة حسب رأي الكاتب ولا يهدف للوصول لتجريدات علمية أو لمعرفة موضوعية عن الواقع «امتلاكه»، فهذا شر ينبغي الابتعاد عنه، فالكاتب يمارس منطقه التجريبي «المثالي الميتافيزيقي فيما يخص معالجته لدور الإرساليات التبشيرية» بعباءة ماركسية، حيث تذكرنا هذه الظاهرة بالتيارات المادية في تراثنا الفكري الإسلامي والتي كانت تتمظهر بعباءة مثالية، ولكننا نرى في هذه المقالة العكس حيث المثالية الميتافيزيقا  تتمظهر بأشكال مادية متمركسة تدعي حرصها على الديالكتيك.
ولا يسعنا القول سوى أن المانوية التي يشن صديقنا الهجوم عليها، والتجريبية التي يمارسها، متقاطعتان بالنتيجة. وبناء على استنتاج ماركس بأن هدف الفلسفة «تفسير العالم وتغييره»، فتقاطعهما يتأتى من كون المانوية تفسر العالم بشكل خاطئ، وبالتالي تنفي إمكانية تغييره، والتجريبية تنفي إمكانية بناء نظري حول العالم  «معرفته»، مما ينفي أيضا إمكانية تغييره. وذلك انطلاقاً من ترابط التفسير والتغيير، فالتفسير الصحيح هو مقدمة للتغيير الصحيح والايجابي، والعكس صحيح؛ فلا نستطيع هنا سوى تقديم النصح إلى جميع التجريبيين بالعدول عن العمل السياسي (الذي هو شكل من أشكال الصراع من أجل تغيير الواقع)، وذلك اتساقا منهم مع منهجيتهم.