حملة تنظيف الذات..
سارع انتهازيو اللحظة والفرصة لامتطاء ظهر الحركة الاحتجاجية الشعبية آن انطلاقها، خصوصاً وأنهم هيؤوا لهذا الغرض مسبقاً، معظم عدّتهم من خطابات تراجيدية وحماسية، وشعارات كلاسيكية ومستحدثة، وأدوات بشرية من كل صنف ولون ودور، وكمنوا منتظرين مترقبين إلى أن هب ما حسبوه ريحهم..
بالنسبة للخطابات فقد أعدّت غالبيتُها سلفاً، وحُفظت عن ظهر قلب بشقيها، التراجيدي المتباكي على حال الوطن وعلى الأحوال الشخصية للمتباكين بصفتهم منفيين أو معتقلين سابقين أو مطلوبين فارين، والحماسي الداعي ظاهراً إلى التمسك بطلب الحرية والعدالة والتغيير حتى النفس الأخير، وباطناً إلى المطارح الأكثر مأزقية للحركة اعتماداً على اندفاعها العفوي، وكانت هذه الخطابات تحتاج إلى منابر إعلامية فقط، والمنابر موجودة حصراً لدى أعداء الحركة الشعبية والبلاد عموماً، سواء كانوا عرباً أو مستعربين أو مستشرقين، وهؤلاء جميعاً لديهم أجندة واحدة تتبع أوامر رأس المال الصهيوني العالمي، والأجندة تحتاج إلى من ينفذها، فكان أن التقت الغايات بالتقاء أطماع ومشاريع المخططين مع طموحات وأوهام المنفذين، وحصيلة اللقاء أثمرت قبيل وأثناء اندلاع الاحتجاجات، خطابات بنكهة «ثورجية خاصة»، راحت تنهمر كالرصاص على الحركة الشعبية، وكأن الرصاص الحي الذي تتلقاه في الشوارع لا يكفي لإيذائها!.
وكما الخطابات، طُبخت الشعارات في مخابر المنابر ذاتها، وإن بوقت لاحق وبصورة أقل علنية، وسُرّبت إلى الحركة بعد تفجرها، تارة على شكل أسماء وعناوين للجُمَع ينضح بعض ما اعتمُد منها بما مُلئ من سموم دسمة حلوة الطعم، وتارة على شكل هتافات شهية للروح المقهورة، خبيثة الغاية والآثار الجانبية، لتُردد في الشوارع والساحات وخيم عزاء الشهداء..
أما بالنسبة للأدوات فالأمر أقل صعوبة، فثمة الكثير من المهمشين، والكثير من الموتورين، والكثير من المأجورين، والكثير من ضعيفي البصيرة، والكثير من البسطاء الذين يمكن خداعهم، وأضيف إليهم سريعاً الكثير من الخارجين عن القانون المطلق سراحهم حديثاً بعفو عام، وبصورة تثير الريبة.. وهؤلاء بمعظمهم أثبتوا أنهم جاهزون لتنفيذ الأوامر، بغض النظر عن الآمر وعن طبيعة ونوع الأمر.
والحقيقة أن كل ذلك قُذف باتجاه الحركة العفوية الوليدة دفعة واحدة، فأنزل بها ما أنزل من خسائر معنوية جمة، وما يزال المخططون، والمنفذون، والأدوات، يحاولون منذ خمسة أشهر باجتهاد ملحوظ وما يزالون، أن يطوّعوا الحركة تطويعاً كاملاً لمشيئتهم، ليحبسوها في أطرهم ومفاهيمهم وأساليبهم وغاياتهم المعلنة أو المضمرة، ويدفعوها بالاتجاه الذي يشتهون.. ولكن الحركة ما فتئت تقاوم باستبسال عظيم، وإن بصورة عفوية قد لا تمكّنها أن تصمد طويلاً إذا لم ترتقِ لمستوى الخطر الذي يتهددها بشدة.
إن صمود الحركة الشعبية، وصولاً إلى نجاحها بتحقيق أهدافها الوطنية كلها، يحتاج اليوم بصورة ملحة إلى أن تقوم هي ذاتها بتنظيف ذاتها من الأدران التي علقت بها طوال الأشهر الخمسة الفائتة، وهذه العملية تتطلب بداية معرفة هذه الأدران التي قد تبدو لوهلة أشبه بقوس قزح خلاب!!
يجب على الحركة أن تعي اليوم أن كل كلمة طائفية، أو لها إيحاء طائفي، أو قد تدفع باتجاه طائفي أو انعزالي، هي قذارة يجب غسلها ورميها عنها، لأنها، أي الحركة، بأمس الحاجة لأن تتسع لتشمل جميع مكونات النسيج الوطني السوري.
ويجب أن تعي الحركة أن أية رصاصة تُضرب من صفوفها بزعم الدفاع عنها، هي رصاصة تصيب قلبها قبل أن تصيب أي هدف آخر.. تصيب مناضليها ومعتقليها وجرحاها وشهداءها وأهدافها العامة وأحلامها بالتغيير الديمقراطي والعدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية.
ويجب ألا تبتهج الحركة بأي مدافع خارجي عن شرعيتها، وبأي راغب بالتدخل في الشؤون الوطنية بحجة حمايتها ونصرة مطالبها، فمن يريد تسمينها اليوم سيلتهمها غداً على مائدة التفتيت والتقسيم وابتلاع البلاد وثرواتها وآمالها بالتحرر..
على الحركة الاحتجاجية الرائعة، الصامدة، الطاهرة، أن تلفظ كل من يريد أخذها إلى العدمية والظلامية وإلغاء الآخر، الأخ والشريك.. أن تتبرأ من كل من يسوق الأعذار والذرائع للانخراط في خطط متكاملة بسيناريوهات متعددة لتمزيق الوحدة الوطنية والدخول في اقتتال أهلي لا يبقي ولا يذر..
المجد للحركة الشعبية وهي تقوم بتنظيف ذاتها بذاتها.. المجد لها وهي تثبت كل يوم عمقها وجذريتها وقدرتها على تطهير نفسها.. المجد لجموحها ولأفقها المفتوح وبوصلتها الدقيقة تمضي بنا لبناء وطن المواطنة.. الوطن القوي، المقاوم، العصي على التفتيت والفرقة والانقسام..