البحثُ عن بطلٍ ضائع..!؟

البحثُ عن بطلٍ ضائع..!؟

التاريخ تصنعه الشعوب، وغالباً ما تدونه القوى المنتصرة والمهيمنة، وتصنع أبطالها، ويغيب دور الشعوب صانعة التاريخ، لكن في الأدب عموماً، والأدب القصصي والروائي خصوصاً، المؤلف هو من يختار أو يصنع أبطاله، لقد نجح العديد من الكتاب والأدباء في التصوير والتعبير عن واقعهم والمرحلة التاريخية التي عاشوا فيها، وبينوا الجوانب المعقدة والسلبية المعيقة.  

 

في رواية موسم الهجرة إلى الشمال للكاتب السوداني الطيب الصالح، التي صدرت عام 1966 يصور الروائي السوداني الأمور بصورة معاكسة، حيث يهاجر (مصطفى السعيد) بطل الرواية من السودان (غازياً) إلى بريطانيا، ويتحطم هو على صخرة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية الغربية، فيعود إلى السودان ويختفي في ليلة عاصفة في لجّة نهر النيل وفيضانه، دون أن يظهر له أي اثرٍ لاحقاً. 

وعبد الرحمن منيف في روايته الخماسية مدن الملح، التي صدر الجزء الأول منها (التيه) عام 1984يصور (الغزو الغربي النفطي) للجزيرة العربية، وتحطيمه للجغرافية المكانية، ولمجتمع البداوة الشرقي وحميميته، ولعل ذلك سبب صدمة كبيرة لـ (متعب الهذال) بطل الرواية الذي اختفى في الجزء الأول التيه.. بأن ركب ناقته وغاب في غياهب الصحراء، ودون أن يظهر له أي أثر لاحقاً أيضاً.

لكن ما يلفت الانتباه في الروايتين أمران:

الأول : في موسم الهجرة إلى الشمال محاولة غزو (فردي) من قبل شخص شرقي لمجتمعٍ غربي، لكنه يتحطم هو على صخرة المجتمع الغربي ويعود مهزوماً محطماً إلى السودان، يعود ليعيش حياة المجتمع السوداني في عزلة أشدّ.

وفي مدن الملح أن الغزو الغربي للشرق هو غزو (قوى) اقتصادية اجتماعية وسياسية وحتى عسكرية، قامت بتحطيم البنى الجغرافية وانتهاك براءتها الطبيعية، وتحطيم البنى الاجتماعية وانتهاك حميميتها.

ولعل اصطدام الأفراد وصدمتهم وتحطمهم (البطل) تعبير عن الفرق بين مستوى الوعي وإدراك العلاقات السائدة ودرجة تعقدها، ودور الغرب الرأسمالي التخريبي في الشرق، وهو المختلف ببنيته ومستوى تطوره، وقام بقطع سلسلة التطور الطبيعي، وحطمها، وفرض علاقات رأسمالية بدل أن يساهم في تطوير البنى الاجتماعية التي تغلب عليها العلاقات شبه المشاعية وبداية الاقطاع، هذا من جهة.  ومن جهةٍ ثانية أن المواجهة الفردية للغرب، ومهما بلغ هذا الفرد من إمكانيات لا يمكن أن تحقق نتائج فعالة وإيجابية على الأقل، إذا لم نقل أنه غالباً ما تكون النتيجة عكسية.

الثاني : أن نهاية متعب الهذال في تيه مدن الملح، كانت هي بامتطاء ناقته وغيبته واختفائه في غياهب الصحراء، وتمت باختياره ولا يظهر له أثر لاحقاً. ونهاية مصطفى السعيد في اختفائه وباختياره أيضاً، لكن مع اختلاف الجغرافيا المكانية، فهو يختفي في غياهب فيضان نهر النيل والأمطار الغزيرة، وكأنه يمتطي ظهر النهر النيل، وكذلك لم يظهر له أي أثر لاحقاً. هذا الاختفاء وغيبة البطل دليل على عجزٍ معرفي لموازين القوى، وعجزٍ عن فهم الواقع، فكان هذا الانسحاب الاختياري، تعبيراً عن الهزيمة الداخلية، بعيداً عن روح التضحية والبطولة.

ورغم الفارق في مستوى الوعي بين الشخصيتين، فمتعب الهذال البسيط وابن بيئته، بينما مصطفى السعيد مثقف متعدد المواهب إلاّ أن نهايتهما متشابهة إلى حدٍّ كبيرٍ.!

من الأمر الأول، يمكن الاستنتاج والرد على العديد ممن يقولون أن الاستعمار ساهم في تطوير المجتمعات التي استعمرها، بل حطّمها ونمّا فيها القوى التقليدية العشائرية والدينية واستخدمها أداة تحكم وسيطرة وقمع لهذه المجتمعات.

ومن الأمر الثاني، يمكن الاستنتاج أن مواجهة الغرب الاستعماري تتطلب قوىً وعملاً ووعياً جمعياً، ورؤية نابعة من الواقع، وليس عملاً فردياً.

الشعب هو البطل!

ولعل النقطة الأخيرة المهمة التي ينبغي الإشارة إليها،أن مواجهة قوى الظلم والاستغلال الرأسمالي العالمي، والقوى السائرة في فلكها لا تتم بالمستوى الفردي الذي بين الكاتبان فشله في روايتيهما، وإنما تتطلب التوجه نحو البطل الحقيقي، وهي الشعوب، صانعة التاريخ، وأنه لم يعد ذلك الدور الفعال للأبطال الفرديين، وعلى القوى التي تطمح لأن يكون لها دور فعال في مجتمعها، وأن تحقق التغيير الحقيقي، عليها أن تستعيد دورها الوظيفي بأن تعود إلى الشعب.

آخر تعديل على السبت, 15 تشرين1/أكتوير 2016 14:48