نسخة طبق الأصل
لماذا تردد وسائل الإعلام كلها الشيء نفسه وبالطرق نفسها منذ عقود عديدة؟ هذا السؤال هو العنوان الفرعي لكتاب قدّمه الصحفي الفرنسي هيرفي بروزيني الحائز على جائزة «ألبير لوندر» للصحافة، ورئيس تحرير النشرة الإخبارية المسائية الرئيسية في القناة التلفزيونية الفرنسية الثانية، تحت عنوان «نسخة طبق الأصل». إن المؤلف يجيب عن السؤال المطروح بمائة وثلاثين صفحة، هو عدد صفحات كتابه.
وذلك انطلاقا من تحليل العناوين الرئيسية للصحف الوطنية الفرنسية الكبرى التي يتمثل أهمها في «لوموند» و«لوفيغارو» و«ليبيراسيون» في تاريخ جرى اختياره دون تمييز. ويقارن المؤلف بين الطرق التي تعرّضت فيها الصحف المعنية لأهم أحداث اليوم ولكيفية تقديمها للقرّاء و«لمرجعياتها» في الماضي حتى البعيد.
ما يصل إليه المؤلف هو أن الجميع يرددون الشيء نفسه وحسب آليات متكررة ومعممة. حيث لا يقتصر مثل هذا الحكم على الصحافة المكتوبة بل يشمل به الإذاعات والقنوات التلفزيونية. ويسأل المؤلف: هل هذا مجرد إحساس أم هو تعبير عن واقع مخيف؟ ومن خلال عودة في تفحّص آليات الإنتاج الإعلامي منذ سنوات الخمسينيات المنصرمة حتى اليوم يحاول تقديم البراهين على وجود «تشابه» كبير في الخيارات وفي معالجة الأخبار والمعلومات، وبحيث أنه جرى تعميم «فن» صياغة الإعلام.
لكن التشابه في الخيارات وفي معالجة الأخبار والمعلومات قابله تبدل واحد كبير هو أن نظرة الصحفي قد «تبدلّت حيال ما كان دائما مركز اهتمامه الأول بل وعلّة وجوده»، أي «الحدث». كما أصبح يتم اللجوء إلى تفحصه ووضعه في إطار سلسلة من الأحداث بحيث أن النقاش والاختلاف في وجهات النظر أصبحا أكثر أهمية من الأحداث ذاتها. وفي المحصلة يتم الوصول إلى نوع من «النسخة طبق الأصل». ولا يتردد المؤلف في القول إن مثل هذه النمطية والتشابه، باختصار أن ذهنية «النسخة طبق الأصل» تشكّل تهديدا حقيقيا للديمقراطية، وتهزّ أحد أسسها عبر إنتاج «كلام» يذهب باتجاه ما يريده الجمهور.
ويحدد المؤلف أحد مكامن الخطورة بالنسبة للصحافة اليوم بكل مشاربها المكتوبة أو المسموعة أو المرئية بوجود ميل كبير لدى الصحفيين لمعالجة المعلومات والأخبار، من خلال النظرة «العامة» والرسمية في أغلب الأحيان، وليس من خلال «تفرّدها».
ذلك أن لكل حدثا مناخه وسياقه وظروفه وخلفياته التاريخية والاجتماعية والثقافية الخاصة فيه. إن «إقصاء» مثل هذه الخصوصية لا بد وأن يؤدي، برأي المؤلف، إلى «تسطيح» المعلومات و«إفقارها» وإعطاء الإحساس أن الأمر يتعلق بعملية «تعميم» و«توحيد لنمط التفكير». مثل هذه النمطية و«فقدان الخصوصية» يتناظر إلى حد كبير مع مستلزمات العولمة السائدة وواقع أن الحقبة التي نعيش فيها تتميز أنها مترابطة فيما بينها بعدد كبير من الشبكات، إلى جانب عدد متزايد من «بنوك المعلومات» التي توزع منتجاتها لمستخدميها من العاملين في عالم الإعلام. ثم إن وجود كمّ هائل من كاميرات التصوير وفي مختلف الأمكنة خلق أجواءً أعطت للصورة «سلطة مفرطة». لكن يمكن إعطاء الصور دلالات غير دلالاتها الواقعية، الأمر الذي قد يثير جدلا طويلاً. ويصف بروزيني الصحفي بأنه قد تحوّل إلى «أخصائي بتركيب الصور»، على غرار معامل جمع قطع السيارات.
ويرى المؤلف أن العقود الأخيرة المنصرمة شهدت توجهاً كاسحاً نحو تثبيت «نسق» محدد من الإعلام. نسق تراجعت فيه الوقائع كي تبرز التعليقات وأشكال الجدل الإيديولوجــي حولها. ويتم التأكيد أيضا أن دور ووزن «العوامل الاقتصادية الضاغطة» و«التنسيق الرأسمالي» لا يمكن تجاهلها في خلق الواقع الإعلامي الجديد. وكان بروز الإنترنت والشبكات الاجتماعية، مما أعطى صفة «الفورية» على المعلومات «دون أخذ مسافة أو تحليل غالبا»، سببا في الخارطـــة الإعلامية.
لقد أصبح الجميع يستطيعون «الاستعلام» حيث يريدون وكما يريدون. لكنهم في الواقع أيضا «يرون ويسمعون المعلومات نفسها»، كما يؤكد هيرفي بروزيني، ويضيـف أنه لا يغيّر في هذه الحقيقة العروض الكثيرة الجديدة وتوفــــر تكنولوجيات أكثر فأكثر تقدما، في ظل سيادة «فن إنتاج ما هو متشابه في اختيار الأخبار وفي معالجتها»، كما يقول.