يا صديق الجميع... واللا أحد
ذاكرة كاملة لدمشق تودعنا، تلك الذاكرة التي أحاطت بالمجتمع المثقف، بكامل تفاصيله، بل تعدته لتشمل الوطن الكبير من محيطه إلى خليجه، بمفكريه ومثقفيه ومواطنيه العاديين.. ذاكرة حملت اسم محمد البخاري بن سيدي المختار الموريتاني القادم إلى دمشق منذ ما يزيد على العقود الثلاثة.. ذاكرة رحلت اليوم.
ودعت دمشق بخاريها.. وودّع المركز الثقافي الاسباني مستشاره، وودعت السفارة الموريتانية موظفها، وودّع الأصدقاء بخاريهم..
ولأن بخاري لا يحب الحزن والدموع، ولا يحب الرثاء، ولا يجيد إلا الغزل بالنساء الجميلات، ولا يعرف طريقة لرواية الحكايات، إلا بكلّ تلك الجدية والشفافية التي لا تمر دون أن يضيف إليها الكثير من السخرية المريرة من هذا العالم الذي تركه يموت وحيداً.
لا أحد يجيد رواية القصص مثل بخاري الذي يضخها بكل ما فيه من الحب.
سأعيد رواية تلك الأحداث لتضحك، لتضحك فقط. سأروي للجميع بخاري الصديق والإنسان قبل بخاري المثقف..
سأكتب ما سيجعل كل رواد «نادي الصحفيين» يلتفتون إلى تلك الطاولة المنعزلة عن الجميع والتي سيبقى اسمها طاولة بخاري وإلى تلك الضحكة المميزة.
سأبدأ بذلك الديوان الشعري الذي وصلك من المغرب، ديوان لم يسجل عليه عنوانك، أرسل مع رحالة إسباني بطريقة مجنونة. ما عرفه ذلك الرجل أن هناك رجلاً في دمشق اسمه محمد البخاري عليه إيصال الكتاب له. كل من يسمع بهذه القصة يظن أن فاعلها مجنون وهو لم يكن إلا الصديق الشاعر الجزائري عادل صياد، ولم يكن متلقيها إلا محمد البخاري.. لذلك سيصل الكتاب مع رجل لا يعرف العربية، يصل دمشق ذات مساء، يسأل عن البخاري، سؤال لم يحتج أن يكرره، ليجد الإجابة عند أول شخص يلتقيه. الموريتاني الأسمر، تجده في نادي الصحفيين. بعد عدة دقائق فقط يكون هذا الرحالة ضيفاً على طاولة البخاري التي احتفت به بالكثير من زجاجات البيرة..
يقول الأصدقاء إن البخاري موجود في كل مكان.
جاء صديق يبحث عن البخاري في دمشق، وعندما سأل قيل له تجده يشرب البيرة في فندق الشام، لم يقم ذلك الصديق بأكثر من اتصال إلى فندق الشام، يرن الهاتف، يتهيأ الرجل للسؤال عن بخاري، مع شبه يقين بأن محاولته لرؤية بخاري فاشلة، والتهيؤ لاستقبال الرد بالنفي، لكن المفاجأة أن صوت البخاري يجيب في الطرف الآخر، ليقول: البخاري معك..
تلك هي القصص التي يعرفها الجميع والتي جعلت منك صديقاً للجميع..
لكنك فعلتها يا صديقي ورحلت وحيداً، لم يقم لك العزاء التقليدي كما يفعل في العادة في طقوس الموت، البيانو هو مودعك الأول، أما مودعوك فراحوا يرسمونك في ما يعزف غزوان الزركلي وهو يرمي إلى قلوبنا الجريحة بـ«سوناتا القمر» لبيتهوفن.
مراسم العزاء ستقوم على إشعال الشموع على كل الطاولات في «نادي الصحفيين»، وستنوب البيرة عن القهوة المرة.
ما يوجعني أنك رحلت هكذا دون وداع، لم تكن عكازتك وحدها من خانك، أنا أيضاً خذلتك، لم أكن بجانبك أنت الذي بقيت طوال الوقت معي..
لكن السؤال الذي لا إجابة عليه والذي سيبقى وجعي. لماذا اخترت هذا التوقيت؟ لماذا اخترت كل هذه الوحدة لتغادر هكذا بسلام؟
هل يكون خيارك في هذا التوقيت خوفاً مضاعفاً على سورية؟ هل هو رفض لكل تلك الدماء التي تسفك يومياً؟ هل هو كل هذا العشق لسورية؟
هل قلت موتاً؟؟ ما أقبح هذه الكلمة..! بمجرد نطقها تدرك أن المسافات صارت أبعد مما كنت تتخيل..
وحق جميع الآلهة رأيت عينيك مساء البارحة نجمتين بوسع السماء..
بخاري يا صديقي سأشتاق إليك..
بخاري الله معك..