من التراث (الجرأة... وأصحاب الحق)

قال زيد بن عمرو: سمعت طاوساً يقول: بينا أنا في مكة، إذ دفعت إلى الحجاج بن يوسف، فثنى لي وساداً فجلست، فبينا نتحدث، سمعت صوت إعرابي في الوادي، رافعاً صوته بالتلبية (دعاء الحج) فقال الحجاج: عليّ بالملبي، فأتى به، فقال له: من الرجل؟ قال: من أفناء الناس (عامتهم)، قال الحجاج: ليس عن هذا سألتك. قال

الأعرابي: فعم سألتني؟ قال : من أي البلدان أنت؟ قال: من أهل اليمن، فقال الحجاج: فكيف خلّفت محمد بن يوسف؟ يعني أخاه، وكان عامله على اليمن. قال الأعرابي: خلفته عظيماً جسيماً خراجاً ولاجاً. قال: ليس عن هذا سألتك؟؟ كيف خلّفت سيرته في الناس؟ قال الأعرابي: خلفته ظلوماً غشوماً، عاصياً للخالق مطيعاً للمخلوق.
فازوّر(عدل جلسته) من ذلك الحجاج، ولم يجب حتى خرج الرجل بلا إذن. قال طاوس: تبعته حتى أتى الملتزم فتعلق بأستار الكعبة، فقال: بك أعوذ وإليك ألوذ، فاجعل لي في اللهف إلى جوارك، والرضا بضمانك، مندوحة (الفسحة) عن منع الباخلين، وعني عما في أيدي المستأثرين، اللهم عد بفرجك القريب، ومعروفك القديم، وعادتك الحسنة.
أرسل المنصور إلى شيخ من أهل الشام (وكان من بطانة هشام بن عبد الملك) فسأله عن تدبير هشام في حروبه مع الخوارج، فوصف الشيخ له ما دبّر، فقال: فعل – رحمه الله- كذا، وصنع – رحمه الله-  كذا، فقال المنصور: قم عليك لعنة الله!! تطأ بساطي وتترحم على عدوي؟! فقال الرجل وهو مولّ: إن نعمة عدوك لقلادة في عنقي لا ينزعها إلاّ غاسلي (يعني الموت) فقال له المنصور: ارجع يا شيخ، فرجع، فقال: أشهد أنك حر شريف، ارجع إلى حديثك. فعاد الشيخ إلى حديثه، حتى إذا فرغ دعا له بمال، فأخذه وقال: والله يا أمير المؤمنين، مالي إليه حاجة، ولقد مات عني من كنت في ذكره، فما أحوجني إلى وقوف على باب أحد بعده، ولولا جلالة أمير المؤمنين، ما لبست نعمة أحد بعده، فقال المنصور: إذا شئت، لله أنت!! فلو لم يكن لقومك غيرك لكنت أبقيت لهم مجداً مخلداً وعزاً باقباً.