عن موسي صرداوي الرجل الذي شتم ظهره
إذا تعثرت عيناك أو كتفاك في لحظة ما برجل سبعيني، قصير القامة، ضئيلها، بمئتين وخمسين شعرة، تقريباً، مصبوغة بإحكام، يمشي في شارع (ركب) ببطء لافت ومغيظ، واستقامة غريبة، لا التفات فيها إلى يمين أو يسار، قادماً من فندق الوحدة، حيث يقيم، متوجهاً إلى مقهى رام الله، (يهطل هناك بين عيون الأصحاب صدقه السائل وذكرياته الـمثقفة)، يمتطي في فمه غليوناً، يدخن العالـم سخطاً؛ فاعرف من فورك أنه موسى صرداوي، وما أدراك من هو أو ما هو الصرداوي هذا؟!
إذا كنا متفقين على أن الإنسان الذي لا يكذب في بلادنا الـمليئة بالأكاذيب هو أحد ثلاثة: الـميت أو الـمجنون أو الطفل، فموسى هو أحد هؤلاء، وأظن أنه الطفل، هذا العجوز الطفل، لا يقدر إلا أن يقول الكلام الحقيقي النابع من قحف رأسه وماء قلبه، لا يهمه إن غضبت أم شتمته أم حقدت عليه حين يقول لك في وجهك الذاهل الذي لـم يتعوّد صدقاً وصراحةً والذي اعتاد تملق الأصحاب ومجاملاتهم: «إن تجربتك الشعرية غير ناضجة»، إن كنت شاعراً، أو «إن سردك القصصي مجاني» إن كنت روائياً أو قاصاً، يشرح لك موسى أسباب رؤيته بشكل علـمي ومنظم ودقيق، إن كنت صبوراً وتحتاج من يريك أخطاءك لتقوّمها وتستفيد؛ فستبقى أمامه كما أفعل أنا، (وصف مرة شعر أخيه فخري بأنه يشبه اللط على النيع، وكان يلط على نيعه وهو يقول ذلك)، صحيح أنه يدمر وقتك ومواعيدك ببطء كلامه وشتائمه الـمفاجئة وانفعالاته الحادة وإطراقاته بين الجملة والأخرى، (بالإمكان الاستفادة من هذه الفسح بين الجمل لإنهاء كأس شاي أو قراءة نصف جريدة أو الخروج لشراء علبة سجائر، كما يفعل وضاح زقطان، لا تخافوا لن يفوتكم كلام موسى، فالانقطاعات بين جمله طويلة نسبياً)، إلا أنه لا يقول كلـمة خارج موقعها، لا يشت وهو السبعيني، لا يبالغ ولا يغمط منجزك إن كان لك فتات منجز فيما تكتب، لا أحد يشبه موسى في عناده وتشبثه بما يعتقده صحيحاً، لا يتراجع عن كلام قاله، لا يغير تفاصيل حكاية ذكرها أكثر من مرة، يبدو غريباً على بلادنا وأجواء مثقفينا، الذين تعودوا مديح بعضهم البعض، ثقافته الواسعة، عيشه في عصر الخمسينيات والستينيات في رام الله وبيروت، ونشره قصائده ومقالاته في أبرز صحف بيروت (الآداب) وخوضه معارك ثقافية شريفة مع أدباء كبار غيّبهم الـموت الآن، ومعرفته الوطيدة بأبرز رموز هاتين الـمدينتين في ذينك العصرين الخصبين مثل: غسان كنفاني، وأدونيس، وعلي الجندي، ويوسف الخال، ومطاع صفدي، وغادة السمان، وغيرهم، كل ذلك منحه خصوصية الـمثقف الـمعذب الـمغترب، الذي يعيش الآن في عصر الرياء الثقافي وسقوط الأحلام. ألهذا يبدو موسى حانقاً بشكل مسبق على كل شيء، ومشككاً في كل شيء.؟ لـم لا نعذره وهو الذي تربى وجدانياً وإنسانياً وثقافياً في خمسينيات رام الله حيث أمين شنار رمز للوفاء والنزاهة والضمير الثقافي والإبداع الحقيقي، وستينيات بيروت حيث هواء الثقافة النظيف، والجدالات وحرية الـمخيلة.
في زيارته السابقة لفلسطين استضفت موسى في غرفتي، بالتأكيد لـم يعجبه شكل الطلاء ولا لونه، ولا حتى لون الوسادة، كنت أناضل حتى أحصل على مساحة توافق بينه وبيني، أحياناً كنت أشك في إمكانية ذلك، فأنا ابن العصر الـمرائي ثقافياً والهش، الواقف أبداً على حافة كذبة أو صفقة، وهو ابن الـمدن الخالية من كيماويات الثقافة وسمومها الـمريبة، كان موسى يعاني وجعاً كبيراً في ظهره، كنت أستيقظ في منتصف الليل على ضجيج شتائمه لظهره: «أيها الظهر الحقير، أيها الجبان، أيها» وكنت أضحك ويذهب النوم لينام ولا ننام، هو وجعاً وأنا ضحكاً، وبين الضحك كنت أراني أوشك على البكاء وأنا أقول: أي خطأ فظيع ارتكب ضدي حين ضللت طريقي إلى زمني الخشبي هذا، كان يجب أن أكون ابن الثلاثينيات في صحبة السكاكيني وسكوت فيتزجراد أو الستينيات في صحبة كنفاني وموسى وسالنجر، لا أبعد ولا أقرب.