هادي ياسين: غادرت العراق وكان فيه صنم واحد
هادي ياسين شاعر ورسام وناقد تشكيلي وسينمائي من العراق. يحمل شهادة بكالوريوس في الفنون التشكيلية من أكاديمية الفنون الجميلة - جامعة بغداد. ينتمي إلى جيل السبعينيات الشعري في العراق، ولم يصدر سوى مجموعة شعرية واحدة، بعنوان «كلام التراب» عن دار الآداب البيروتية عام 1990. ترجمت قصائده إلى عدة لغات. في زيارته الأخيرة إلى دمشق كان لنا معه هذا الحوار..
• جئت من العراق ـ في زيارة إلى دمشق ـ وأنت مستاء مما رأيته هناك.. ترى ما الذي تغير في العراق الذي غادرته منذ خمسة عشر عاماً؟
الذي لاحظته من تغير، هو إنني غادرت العراق وكان فيه صنم واحد، ولكن حين عدت إليه وجدته غابة من الأصنام. غادرته وكان فيه عدو واضح، وحين عدت وجدته ملفوفاً بالغموض العجيب، فما عاد العدو واضحاً. ووجدت أن أول ضحايا هذا العدو (أو الأعداء الضبابيين) هو الثقافة، والأدهى أنني وجدت أن من كانوا (فرساناً) في الثقافة العراقية قد باتوا حملاناً يلهثون وراء الذئاب. وجدت سذاجة الريف قد زحفت على الثقافة الجمالية وأزاحت بغداد المثقفة.. أدركت ذلك من خلال البنايات المقامة حالياً، ومن انتشار الأغاني الرخيصة وسذاجة ديكورات وألوان واجهات المحلات، وريفية مذيعي ومذيعات معظم القنوات الفضائية العراقية التي ضربت هي والصحف العراقية رقماً قياسياً في أعدادها، فأشاعت ثقافة الكم على حساب النوع.
غير أن التعميم ليس وارداً هنا. فهناك استثناءات. استثناءات تكافح بقدرتها الذاتية، بلا معين، ومن دون أن يكترث إليها لا الذئاب ولا اللاهثون.
• لم تصدر سوى مجموعة شعرية يتيمة هي «كلام التراب» والآن وبعد عشرين عاماً ـ تحضّر لإصدار مجموعة ثانية. هل توقفت عن كتابة الشعر طوال هذا الزمن؟ أم أنك تواصل الكتابة دون اكتراث بالنشر؟
الشق الثاني من السؤال هو الصحيح. فأنا ـأصلاًـ غير مكترث بالنشر، ولولا إصرار صاحب دار الآداب، الراحل الدكتور سهيرل إدريس، لما نشرت مجموعة «كلام التراب».
النشر ليس مهماً عندي. ما يهمني ـ بالدرجة الأولى ـ المتعة الشخصية في الإبداع. كما أنني لا أتعامل مع الشعر كجاه اجتماعي أو ثقافي. ما يهمني أن أتعامل مع الأشياء والحياة والوجود كشاعر.
• عطفاً على السؤال السابق: ما الذي قد تغير في نصك خلال كل هذا الوقت؟
لست ممن يتهربون من الإجابة عن سؤال كهذا لأجيب إجابة تقليدية بالقول: «هذا السؤال يجيب عليه النقاد»، ذلك أنني لست معنياً بنقد النصوص من نقادنا (المحترفين). ما تهمني هي متعتي الشخصية. وأنا ناقد نفسي _ داخلياً ـ أولاً. وهذا ليس تعالياً.
وسأجيب بالقول أن نصي لم يتغير إلا من حيث الشكل والبناء بما يترافق مع نمو وعي ومساحة تجربتي في الكتابة، فأنا أؤمن بأن الشاعر ـ إذا كان شاعراً حقاً ـ إنما يوجد في منطقة شعرية واحدة منذ البداية، وفي هذه المنطقة يؤسس كيانه الشعري ويعلي عمارته الشعرية. أو لنقل بتعبير أكثر مجازاً أنه يعمق حفرياته في هذه المنطقة. شخصياً، احسب أن نصوصي في السنوات الأخيرة قد استفادت من سالفتها وأنا أراقب أخطائي دون اكتراث بأخطاء سواي، ولكنني أحسد بمحبة كل من يكتب نصاً جميلاً، ولا أخفي أمنيتي لو أنني أنا الذي كنت كاتبه، بل إنني طالما أرسلت رسائل إعجاب لأصدقاء شعراء.. (حسداً) مني على نصوص جميلة كتبوها.
• «الذئلب».. هذا العنوان الغريب، هو عنوان رواية كنت قد كتبتها عن حقبة من تاريخ العراق الحديث.. بماذا تحدثنا عنها؟
«الذئلب» هو عنوان اجترحته من المزج بين شخصية الذئب والثعلب. وقد شرعت بكتابة الرواية ـ مباشرة ـ بعد انتهاء الحرب العراقية ـ الإيرانية عام 1988 وانتهيت من كتابتها عام 1993، بما مجموعه 540 صفحة. ولا تتضمن هذه الرواية أية إشارة مباشرة إلى البلد أو المكان الذي تدور فيه أحداثها ـ لا من قريب ولا من بعيد ـ وربما كان من الممكن إسقاطها على أي بلد وعلى النظام والأحداث التي فيه. ولكن القارئ المدرك سيعرف أن ميدان الرواية هو العراق.
الذي حصل هو أنني حين غادرت العراق في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، تركت الرواية لدى زوجتي، خشية ضبط مضمونها على الحدود. وبدورها فإن زوجتي قد تركت مخطوط الرواية لدى والدها عندما التحقت بي هي وأبنائي بعد نحو سنين. ولكن عندما أدركت مخابرات النظام السابق موقفي من النظام، فقد راحت تضايق والد زوجتي وإخوتها. وأقدمت السلطات الأمنية على توقيف شقيقي في السجن، بسبب موقفي فما كان من صاحبنا ـ المؤتمن على المخطوطة ـ غير أن يقدم على حرقها تجنباً للشر. وهكذا أضحت روايتي رماداً بعد أن كتبتها بحماس وشغف واندفاع طوال خمس سنوات.
ولكنني، بدأت ـ قبل أشهر ـ بكتابة رواية (تعويضية) تحمل ذات العنوان: «الذئلب»، ولكنها تنطلق هذه المرة من النقطة الحدودية. حيث يحمل البطل الجديد معه مخطوطة بعنوان «الذئلب» ناوياً الخروج بها ليطبعها خارج البلاد، فيتم ضبطه، فيعاد إلى الداخل ممنوعاً من السفر، في طريقه إلى مصير مجهول. وقد كتبت ـ حتى الآن ـ ستة فصول من الرواية الجديدة، وما يزال البطل في طريق الإعادة ، وهو الآن في حالة استذكار.
• لديك شغف أرشيفي كبير.. نراه في مقالاتك. حيث تعتمد الوثيقة في الكتابة عن الأمكنة والأشخاص.. هل من الضروري للوثيقة في كتابة المقال الذاتي؟
أنا شغوف بالثقافة الغربية وتعامل الغرب مع نتاجه وتاريخه الثقافيين. والغرب أثبت أنه يعرف كيف يثبت وثائقية تاريخية، السيئ منه والحسن. أما نحن فكذابون ومنافقون ومنمقون و(نصنع) الوثيقة صنعاً، وربما نخترعها، وهذا يغذي وجود السفلة والمزيفين وفي وجودنا، ما يغذي خساراتنا الثقافية وبهتاننا التاريخي. فنحن غير توثيقيين. نتعامل مع الأحداث والأشخاص إما بصورة عابرة أو عاطفية. شخصياً لدي إحساس جاد بالتوثيق منذ طفولتي في القرية. وأنا الآن أتذكر الكاميرا العتيقة السوداء ذات العدسة المؤطرة بالإطار الفضي التي صورت بها إخوتي، والقرية التي قضيت فيها صباي وفتوتي، ومازلت احتفظ بهذه الصور معي في أرشيفي الشخصي في كندا.
هناك كثير من الأدباء والفنانين والمثقفين العراقيين احتفظ بصورة نادرة لهم في بيتي الكندي، وهم لا يعلمون. نحن الآن نتحسر على صوت الشاعر أو الخطيب أو الزعيم الفلاني الذي كان قد قال كلمة حكيمة في وقت ما، ربما لا يتعدى الثلاثين عاماً. هذا أمر معيب. فالتوثيق شكل من أشكال التحضر، لم نتعلمه من الغرب الذي نمعن، دائماً في الإساءة إليه، في حين أننا أول المسيئين لأنفسنا من حيث ندري أو لا ندري.