فحول ومخصيون
إن التورط في الحديث عن الشعر يتم عادة في جوانية ثمة لا تأخذ بالمنجز، أو داخل مقولة فحول ومخصيين:
وما عدا.. فإن مشاكسة هذا المكان لغة عرجاء، لا تفضي إلى الساحة الحقيقية التي تحتفي به أو تهبه بعض المعنى، لأن المساحة المعنية (جغرافيا البشر) أو جغرافيات الجسد والأرواح وكيميائها، وتلك الأشكال الهلام تتلاقح وتسبح في فضاء الممكن شياطين ومسوخ ملائكة، وفي المحصلة هم غير مؤهلين لشيطنة خالصة، أو لوداعة الملاك وموضوعة الطيبة فيه. فيأتون الجمالي وينتهكون منه ما استطاعوا، حتى إذا كبرت نفوسهم وتطبلت، صاروا ناطقين باسمه، أبعد من لسان حاله، متخطين أن يكونوا مدانين له، باعتباره الشكل البهي أو المتبقي من إشراقة الضوء في خيالاتهم، غالباً تنشط عن مرمى الشعر وهواجسه (سنفهم أن الشعر ودوامه مرتبط بقرب الآخر منه.. آخره المخلص له، وعليه يتم بناء العلاقة الصحية، ثنائية التفاهم منتج إبداعي = متلقٍّ إبداعي)
وإذا صيغ سؤال ما: ما مستقبل الشعر (1) يتوالد آخر في لعبة اللغة (على غير طريقة شعراء النثر) ما شعر المستقبل؟ (2) ثمة تشابه عميق بين (1) و (2) صورة ومضموناً. في (1) ينهج السؤال (بتقليديته إلى معرفة دوام الشعر بشخصيته وتعاريفه، وإذا لم يكن قد مات كما سميناه (كائن) موتاً ميكانيكياً فهل المقولات العظيمة الرجاجة ستطول (موت المؤلف، موت التاريخ).
كثيرة هي الإضاءات تجعلنا نتفاءل بالشعر واستمراره، وإذا أخذنا بمقولة حمزاتوف الشهيرة، وعدنا إلى القريب من أيامنا المنطفئة، سنرى أنه رغم احتفاء المتلقي بالإبداعي ورسمه جماهيرية محددة ومتمايزة حسب الذائقة، لم يرتق هذا الاحتفاء إلى مصافي تشكيل النسق، والأمر ينطبق على يومنا الراهن فجيّد اليوم حال جيّد السالف، ورديء اليوم حال رديء الأمس سيلقى حتفه، وبكاؤنا على الخوالي من الأيام ،لا يعني أن السابق كان له السبق والانتصارات المذهلة في النفس، فكم هي كثيرة نصوص موغلة في القدم تتحدث عن الأزمات، وطغيانها بطريقة تفوق نزوعنا العاجز عن الحديث، وعلى هذا من السوء أن نأخذ بموت الشعر أسوة بميتات أُخر متذرعين بسيادة (التقني) وانتصاره على ذواتنا (اندحار القلم لصالح (الكيبورد)، والورقة للشاشة، وصندوق البريد الرصاصي لصالح الماسنجر) وهذا ربما يقودنا لأن نحول الحياة وجبة سريعة.
من غير (الجميل) كيف لنا أن نصون أحلامنا وألا نتخيل الأشباح على النافذة أو تحت السرير أو بين أوراق الكتاب أو.. كيف لنا ألا نرى المؤامرة في لمس يد الحبيبة أو على رطوبة شفتيها وهل الشعر غير قوة عظمى تنافح بالحلم ضد مجانية الأيام فمن هم سدنة القوة اللينة الحالمة ومن هم صانعو اليوم الجدير بأن يعاش؟
إنهم: فحول الكتابة، أصحاب مشاريع واستراتيجيات عاشوا الماضي كقراءات مسؤولة وتجارب وجربوا المضارع، يقول (ريتسوس: الشاعر لا يعيش في الماضي التاريخي ولا في الحاضر ـ التاريخي، وإنما يهيء حياة المستقبل) وهم الباحثون يتلمسون السؤال: ما شعر المستقبل؟ والمعنى البحث عن أدوات وقيم جمالية يتلبسها الشعر ليطهر نفسه ويطهر الشاعر فيكون رسولاً إلى جهات القداسة يرفع (الكارد الأحمر) بوجه أنصاف الموهوبين، ويكون نصه معجزته، ذلك النص المغاير الموارب الشبيه بامرأة تريك بعض مفاتنها تاركة لك عبوراً خجولاً إلى المخفي والمسكوت عنه، فأجيب الشعر.. أحبب الحياة كما عبر العقاد يوماً وإذا كانت الحجرة عند يانيس ريتسوس رد الفعل في مواجهة لا عدالة العالم فإن الشعر يفعل ذلك.
صعوبة كتابة الشعر، ارتباط الكتابة بمثاليات، أرواح غير منظورة وأودية يهبطها الشاعر يلتقي شياطين هناك، فإن عقد اتفاقيات بينه وبين ساكني هذه الأودية غير الموجودة على الخارطة، يمنحه بجدارة حسد الأجناس الأدبية الأخرى حيث ينظر إلى الشاعر على أنه خارق ونادر فتتشكل لديه كاريزما تعزز رؤية الآخرين له، هذا رهن سلوكية تربط بين المبدع وإبداعه، بمعنى أنه لا يجوز أن نميت الشاعر،ونقرأ نصه بل علينا قراءته، واستحضار صورته، إلى جانب نصه، وهذا يعني أن ننسف (مقولات موت المؤلف، أو موت الممثل، أو حتى موت التاريخ) فالكل يجب أن يعيش ،كي نحاكمه، نبرأه أو ندينه،نحن كقراء.. الطرف الآخر في المعادلة.