الطبقة التلفزيونية في سورية وسط منقطع عن المجتمع
تبدو مؤسسة الدراما التلفزيونية السورية، إذا كان لنا أن نستعمل هذه التسمية، مثل ثقب أسود يسحب إليه جميع الطاقات الثقافية في البلد. فهاهم الروائيون يتحولون إلى كتاب سيناريو، والنقاد وصحفيو الثقافة إلى معلقين يتناولون الأعمال الدرامية، والفنانون التشكيليون إلى مهندسي ديكور ومصممي مناظر وملابس، والموسيقيون إلى مؤلفي موسيقا تراث وموسيقا تصويرية.
لم يأت هذا من فراغ فالدراما التلفزيونية هي السلعة الثقافية الرابحة الوحيدة هذه الأيام، والفارق الكبير بين عائدات العمل فيها وأعمال أخرى ذات طابع ثقافي يجعل الإغراء من النوع الذي تصعب مقاومته.
تشكلت لدينا خلال السنوات الأخيرة، مع الفورة الإنتاجية في الدراما التلفزيونية التي كان للقطاع الخاص الدور الفعلي فيها، طبقة تلفزيونية، تكاد تكون طبقة اجتماعية، ولهذه الطبقة مركز وأطراف، ففي المركز المنتجون والمخرجون والممثلون والكتاب، وفي الأطراف من يزاولون تلك الأعمال الملحقة بمهنة التلفزيون أو الداعمة لها. لقد مكنت مهنة العمل التلفزيوني أصحاب الطموحات الإبداعية من المخرجين الذين وصلوا إلى درجة اليأس من السينما، والممثلون الذين وصلوا إلى حالة مماثلة مع المسرح، من تحقيق قفزات مادية ـ وبالتالي اجتماعية ـ سريعة، أما الكتاب فقد وجدوا البحبوحة المادية، وإمكانية إيصال أفكارهم إلى جمهور عريض غير متطلب.
تحول المعهد العالي للفنون المسرحية إلى فرع دراسي منافس في بورصة الأقسام الجامعية، ورغم الطبيعة الخاصة للمتقدمين إليه، إلا أن الفعالية المادية لمهنة التمثيل التي أثبتت نفسها، وتنامي الاحترام والقبول الاجتماعي لهذه المهنة التي كانت منبوذة لعقود خلت، والطابع الثقافي للمعهد حصراً، كل ذلك وسع من حجم الشريحة الاجتماعية المقبلة على هذه الدراسة، التي كانت في السابق مقتصرة على أبناء العاملين في الحقول الفنية وبعض المغامرين مستقلي التفكير. ورغم الإدعاءات الثقافية الكبيرة إلا أن المعهد استوعب متقدمين لم يكونوا يبحثون إلا عن الشهرة والمال ونوع من الحرية والاجتماعية والتخفف من القيود، دون أن يمتلكوا حداً أدنى من الجدية والفكرة العالية والتفكير المتحضر عن طبيعة المهنة التي هم مقبلون عليها.
نشأت لدينا طبقة تلفزيونية خرقت وعلى نحو مذهب القوانين الصارمة للصعود الاجتماعي والاقتصادي السائدة، فشباب الهوامش وجدوا أنفسهم خلال بضع سنين ـ يحتاج الممارس لأية مهنة أخرى لإضعافها ـ يمتلكون وضعاً مادياً مستقراً ومنازل وسيارات، كما راقت لهم الحالة الاجتماعية للمهنة بما فيها من شهرة وأسفار وسهرات وعلاقات، وعدم ارتباطهم بساعات عمل ثابتة تتطلبها معظم المهن، ورغم ما كانوا يبذلونه من جهود وساعات إعداد وعمل طويلة، إلا أنهم كانوا يمتلكون ترف التوقف عن العمل أو الاعتذار عن بعض طلباته دون أن تتأثر أوضاعهم المادية جدياً، فعجلة الإنتاج المتسارعة والبيع المضمون للفضائيات التي تتوالد يجد لمعظمهم مكاناً باستمرار. ورغم قسوة المنافسة وصعود نجومية البعض وانفتاح الأبواب أمامه، وبقاء البعض الآخر متوقفاً عند حدٍ معين، إلا أنهم في أسوأ حالاتهم كانوا يملكون من المزايا ما لا يمكن الحصول عليه في مهن أخرى. لم يكونوا جميعهم من الموهوبين وكان العديد منهم مجرد مؤدٍّ أدوار وبأية صورة. قبل فترة تساءل النجم العالمي عمر الشريف: أليس من الظلم أن يحصل الممثل لقاء قول أشياء بسيطة على مبالغ ضخمة، لا يستطيع الإنسان العادي الحصول على مثلها خلال سنوات!
الخطير في الظاهرة هو نشوء وسط منقطع الصلة بوعيه عن المجتمع الذي يحيط به. بدأنا نرى في الأعمال الدرامية انعكاس لحياة هؤلاء الناس، فنجد أبطالاً من كتاب السيناريو أو الممثلين، ينقلون ما يفكر به خالقيهم مهما كان ذاتياً، نافلاً أو مبسطاً، أو يشيرون إلى الكتب التي يقرؤونها (وهي في معظمها من الأدب الرث والبست سيلر)، وظهر ذلك أكثر حين اقتحم المشهد كتاب سيناريو غير محترفين ليس لهم مرجعية أدبية أو مهنية، بل أشخاص يجيدون القراءة والكتابة ويستطيعون طبخ حكاية وكسب بعض المال.
كونت الطبقة التلفزيونية قيمها الخاصة، فهي متحررة إلى الحد الذي لا يهز عدداً من المواصفات الاجتماعية جدياً، وإن وجدت فيها حالات متطرفة جمعت بين المال الوفير والركاكة الثقافية فحاولت التصرف كنجوم هوليوود، فصنعت قصص زواجها وطلاقها، واستعراضها الاجتماعي عبر إظهار ما تملكه من سيارات ومنازل فخمة وما تقوم به من رحلات.
العيش ضمن هذا الوسط الهش، المؤقت، الذي يتميز بعناصر نمو كاذبة كالريعية النفطية، دفع هذه الطبقة إلى نوع من الاستعلاء الاجتماعي، وممارسة ضرب من السخرية تجاه ما هو شعبي (حتى عبر أعمالها)، متنكرة لأصولها التي هي متواضعة بمعظمها. الأضواء المسلطة بقوة على نجومها جعلت الثرثرة التي تصدر عنهم ترتقي إلى مستوى الثقافة، وجعلت من مواقفهم الملتبسة في القضايا العامة مواقف مبدئية وجوهرية.
يتميز هذا الوسط بكونه غير متشدد في شروطه، فستجد التاجر صاحب عقلية الدكنجي الذي تحول إلى منتج، والغانية وفتاة الإعلان اللتين تحولتا إلى فنانتين، ونماذج من شذاذ الآفاق الذين تحولوا إلى شخصيات محترمة اجتماعياً، مع الفنان الجاد والموهوب والمثقف. وهذا الوسط بقدر ما يبدو منفتحاً وديمقراطياً، بقدر ما هو منغلق وعدائي تجاه من لا ينتمي إليه.
واءم أفراد هذه الطبقة، أو حاولوا أن يوائموا بين متطلبات الظهور الاجتماعي والشباب الدائم، وبين متطلبات الأسر التي كونوها، وبعضهم تقبل مؤسسة الزواج نفسها على مضض. ومع أسر كهذه عمل هؤلاء على الاستفادة من مهن ومؤسسات تعفيهم من الواجبات الطبيعية لأصحاب الأسر، فاستفادوا من خدمات جيش من الخادمات وجليسات الأطفال والسائقين والمدرسين الخصوصيين والمعاهد المدارس الخاصة والمطاعم والمصابغ، وعاشوا حياتهم لاهين كالعزاب، أو كعدد من الأزواج الساحرين المتنقلين من حفلة إلى أخرى، ومن مناسبة إلى ثانية، بعد أدوا قسطهم للعلا أسرياً وتقبلوا القوانين الطبيعية، والتفوا على القيم الاجتماعية التقليدية ولم يتجاوزوها، أما الأولاد فتنتظرهم المهن الفنية بالوراثة وعلاقات الأهل.
■ منار ديب