الأدب والصّحافة: أما يزال ذاك الزواج الطويل سعيداً؟
نشأت الصحافة في كنف الأدب، فرضعتْ من أقلام كتابه، وترعرعت في حدائقه، وربما ما كان لألقها أن يكون لولا هذا اللقاء المثمر. لذلك يرمي السؤال إلى مقاربة العلاقة عن كثبٍ بين النص الأدبي، للكاتب، وبين مقالاته الصحفيّة.
وهل تأخذ (الصحافة) حصّة الأدب من ناحية الوقت والاهتمام. وما هو مدى التأثير، لكلّ منهما على الآخر، بالأخصّ ما يتجلّى أدبياً في النواحي التقنية واللغوية. وما الذي يشكله الآخرون الذين يكتبهم الكاتب.. أهم مجرد ذريعة ليقول فهمه ورؤيته، بحيث يعكس هواجسه الخاصة على نصوصهم حين يكتب عنهم مقالات؟ أم أنهم ترمومتراً حياتياً ووجودياً، حين يختبرهم في قصة أو قصيدة، أو رواية؟
§ د. نوفل نيوف «قاص ومترجم»:
الآخرون هم الوجوه الأخرى من الموشور الذي أتا
تبدو لي الصلة بين النص الأدبي والمقالة كالصلة بين شفافية الغموض وجلاء المنشود. وبغير ذلك تزول الحدود وتنعدم الخصوصية، بين الأدب والصحافة.
ما هو غامض، مقلق، يعتمل في أعماق النفس، ما هو مادة المكابدة، يكون عصياً على الالتقاط والتشكيل لغوياً إلا عبر الصياغة الفنية. وهنا في تقريري يكمن سره الشكوى من «ضيق العبارة» لدى الصوفيين، وفي هذا التعميم ثمة ما هو مشترك بين القصة القصيرة والمقالة، على أن الخوض في تفاصيل ما يفرّق بين هذين الجنسيين يخرج عند حدود ما نحن بصدده الآن.. في المقالة ينصب السعي على أهداف معينة، على الكشف عن فكرة أو إيصال فكرة. وهنا أيضاً نجد ما يفرق بين النص الأدبي (الإبداع) والمقالة، وما يجمع بينهما أيضاً من ناحية ثانية.
الإبداع يتطلب مقدرة، من نوع خاص، على التعاطي مع الهواجس والآمال والأحلام والخيبات، على جعل هذه الأشياء جزءاً من كينونتك، همومك، محركاً لأسئلة تكويك، توسّع الحياة، تجعلها متعددة، مفتوحة الآفاق، بعيداً عن محاولات الإقناع والإثارة والتلقين والتوجيه والوعظ. الإبداع يولّد مشاعر وأفكاراً ولا يقولها، وبالمقابل، فإن المقالة هي قول الأفكار والهواجس والتطلعات والحجج بأكبر قدر من الوضوح والقوة على الإقناع أو دحض آراء الآخر.. على أنّ الأسلوب مكوّن شديد الأهمية في بناء النص الأدبي والمقالة، سواء بسواء، وفي صنع جمالياته الخاصة.
كان دستوفسكي يقول، ما معناه، «الصحافة خبز الأديب». كان يؤكد على ضرورة قراءة الصحف، ومتابعة ما تنشره من وقائع يومية اجتماعية وسياسية. ولعل عدد الأدباء الذين لم يتعاملوا مع الصحافة قليل للغاية، خلال تاريخ صاحبة الجلالة. بل إن كثيرين منهم كانوا منخرطين فيها بقوة، ونذكر همنغواي وماركيز على سبيل المثال لا الحصر. إلا أنّ العمل الصحفي لا ينبغي أن يستحوذ على عالم الأديب الذي لا بد له من «خلوة مع النفس»، من صفاء وانقطاع لعالمه الداخلي.
يخيّل إليّ أن التعامل مع الصحافة، متابعة وعملاً، يجب ألا يزيد عن «وقت مستقطع» من حياة الأديب اليومية. هذا عندما تكون هناك صحافة حقاً، تمثل منبراً لتعدد الرؤى والآراء ووجهات النظر.
شخصياً، كان انقطاعي شبه الكامل للعمل الصحفي (ثماني سنوات في موسكو 1996 ـ2003) تجربة متواضعة، دفعت ثمنها غالياً على حساب الأدب.
أعتقد أن شغلي الأدبي كان مؤثراً، لغة وأسلوباً، على عملي الصحفي، وليس العكس. قد يكون ذلك ظاهراً في كتابي «روسيا من الداخل».
ربما أكسبتني الصحافة غنى في التجربة والمعرفة السياسية، يفوق كثيراً ما أضافت إلى تقنياتي الفنية واللغوية. وأظنّ أنّ الفضل في تعميق التكثيف، الاقتصاد في الكلام، امتلاء العبارة (ما يتطلبه قياس الزمن بالثواني في الإذاعة والتلفزيون) يعود في جزء منه إلى ما أفدته من العمل الصحفي، ولكن المسافة كبيرة جداً بين الكتابة الصحفية، وما أكتبه من أدب.
في الأدب، كما أرى، يختلط الـ«أنا» بالـ«الآخر» إلى درجة يصعب الفصل بينهما، الآخرون ليسوا ذريعة، أداة، مسوغاً للكتابة، للتعبير عن هواجسك، الآخرون هم الوجوه الأخرى من الموشور الذي هو الـ«أنا»، «الكون الصغير» الإنسان الآن وهنا. الموشور الذي أجهد لفهمه، واستكشاف كنهه. ثمة في الذهن، دائماً، حضور لشخصيات ما عندما أكتب. غير أنني لا أنسخ، لا تقيدني تلك الشخصيات. كل شخصية تمثل جماعاً عضوياً قوامه الأنا والآخر والمتخيل.
§ رباب هلال «قاصة»:
بين نص يقول بصراحة ونص يقول دون أن يقول..
أن تكتب مقالاً صحفياً وتكتب نصاً أدبياً فأنت في عالمين مختلفين تماماً، فكتابة الأدب تختلف بالتأكيد عن الكتابة حول الأدب، إن كان على صعيد اللغة أو التقنية الفنية.
كتابة النص الصحفي هي الكتابة في الوضوح والعلن، أمّا كتابة النص الأدبي فهي الكتابة المواربة المقنّعة بغلالات قد تشاكس أو تتغادى في شفافيتها، أو تخفّيها تبعاً لرؤية الكاتب ومراميه. في النص الصحفي نقول كل ما نريد قوله بصراحة، أما في النص الأدبي فإننا نقول كل ما نريد قوله دون أن نقول. وبهذا فإن اللغة تهيمن وتتغاوى باختلافها وتباينها اختلاف وتباين النصّين.
في النص الأدبي تنداح رؤية الكاتب النقدية إلى ما وراء النص، أمّا في النص الصحفي فإن تلك الرؤية تبرز داخل النص، من هنا، فإن الكتابة عن تجارب الآخرين الأدبية تعتبر ميداناً لعرض الآراء والمقولات الخاصة بكاتب المقال، وهذا ما يبرر تعدّد القراءات والدراسات والأبحاث لنصّ محدد أو كاتب معين.
لكتابة النص الأدبي وقته ولكتابة النص الصحفي وقته، وإن كان هذا الأخير يفعل فعل الجرذ بقرض الوقت المخصص للأول أحياناً، في الحال التي يكون فيها الدافع الاقتصادي يتصدر مقاصد الكتابة الصحفية، وللأسف، هذا واقع الكاتب السوري بشكل عام. ولكن، في الحين ذاته، فإن الكتابة الصحفية الثقافية بكافة تجلياتها فإنها تدفع بالكاتب إلى مواكبة الراهن ومتابعة الإنتاجات والإصدارات الثقافة الطازجة.
§ وائل السواح «روائي ومعلق سياسي»:
تطابق النص والمقال
بالنسبة إلي تنقسم حياتي الأدبية على نصفين تقريباً. فأنا بدأت قاصاً وروائياً، ثم بدأت أهتم أكثر فأكثر بالكتابة السياسية، حتى تخليت تماماً عن كتابة الأدب، و تفرغت للكتابة السياسية. وأعتقد أن في بلدنا أدباء كثيرون ولكن الكتاب السياسيين قلة، خصوصاً إذا عرفنا الكاتب السياسي على أنه باحث موضوعي في حقل السياسة وليس موظفاً في جريدة حكومية أو جهاز أمني من ناحية، أو داعية أيديولوجياً، يجيد الصراخ والشتائم أكثر من فهم الأمور والبحث في العلاقات التي تنتج الحدث السياسي أو تنتج عنه. ومن هنا أستطيع أن أقول أن ثمة تطابقاً الآن بين نصي الأدبي ومقالي السياسي الذي أكتبه.
ولأنني كاتب سياسي، فإن الصحافة هي المجال الأهم للقاء مع القارئ. ومرد ذلك أن بلادنا تخلو من المجلات السياسية المتخصصة أو الحوليات التي تراها منتشرة بين شعوب الأرض كافة. وفي معظم الدول المتخلفة تتخصص الجريدة بالمتابعة اليومية للحدث والتعليق عليه، فيما تخصص الحوليات بالخوض في تحليل الأسباب والدوافع والظروف واستشارف آفاق المستقبل المتعلق بحدث سياسي بعينه. في بلادنا، تحل الجريدة محل الاثنين معاً. ولذلك كان لا بد أن تكون الجريدة المكان الذي ينشر فيه الكتاب السياسيون كتاباتهم.
ولكن ثمة فرقاً بين الكاتب السياسي والصحفي. فالأخير يتابع الخبر لحظة بلحظة ويجد نفسه في غماره شاء ذلك أم أبى، أما الكاتب السياسي، فيعطي نفسه فرصة لينأى لحظة عن الحدث، ويضع الانفعال جانباً، ويأخذ بجانب التدقيق الموضوعي العلمي. وبالتالي، ففي حين يكون هم الصحفي السبق الصحفي، يكون هم الكاتب التدقيق العلمي.
ولا بد أن تكون لغة الصحافة قد أثرت كثيراً على لغة الكتاب السياسيين، ولكن دون أن توقعهم في دوامة اليومي، ودون أن تجرد أسلوبهم من رقي بلاغي وأدبي لا بد منه لكتابة تريد أن تستمر، لا أن تقرأ صباحاً لتنسى في المساء. ولعل بعضاً من الكتاب السياسيين في بلادنا يتمتعون بأسلوب يتفوق على نظرائهم الأدباء، وخذ مثلاً: سمير عطا الله أو غسان الإمام أو مشاري الذايدي، وهم كتاب سياسيون يمتلكون من رقي الأسلوب ما يقصر عنه كثير من الأدباء من أجيالهم.
§ طارق عبد الواحد - «شاعر»:
عندما تسنح الحرية...
تأسيساً، من الناحية المفهومية، هناك فرق كبير، بين الصحافة والكتاب، وبالتالي لا بد من إدراك هذا الفرق، أثناء مزاولة أحد هذين النوعين من الكتابة.
علاقة الكاتب بالصحافة تحمل أكثر من معنى وأكثر من إشارة، إنها من جهة تعكس علاقة الكاتب بالواقع والراهن والحاضر مكانياً وزمانياً، وهي (العلاقة) تدلنا إلى أي مدى يعيش الكاتب في زمنه أو في زمننا.
بهذا المعنى فإن علاقتي مع الصحافة هي بمثابة إعادة ارتباط مع الواقع والزمن، على خلاف العلاقة مع الأدب التي تتضمن إعادة إنتاج الوقع، وإعادة إنتاج الواقع هذه قد تتعالى عليه أو تلغيه أو تمسخه، أو تخلق واقعاً موازياً لا يستطيع التقاط مفرداته إلا من تمرس على عملية القراءة.
هناك علاقة راسخة «جديرة بالنظر» بين النص الصحفي والنص الإبداعي والتنقل بين النصين بمثابة التنقل بين غرفتين في المنزل – الخزان المعرفي والإبداعي. بهذا المعنى فإن نصي الصحفي شديد العلاقة مع النص الآخر. إنه نافذتي المباشرة على الحديقة والشارع وزحام البشر، بعكس النص الإبداعي الذي يحمل بعض المواربة أو التقنع، وهذا أمر تتطلب العملية الفنية نفسها.
استفدت كثيراً من النص الصحفي سواء في مستوى التقانة أو اللغة أو الأداء... فالصحافة تمكن الكاتب من تلقي الردود المباشرة والفورية، فضلاً على أنها توفر أعداداً أكبر من القراء.
أكتب عن الآخرين عندما يثيرونني سلباً أو إيجاباً، الآخرين القادرين على إطلاق الشرارة فيّ، أو استفزازي موافقة أو مخالفة، والكتابة في هذه الحال ليست محايدة إطلاقاً، إنها تعنيني دائماً، إنها أنا. أحياناً يبلغ التعبير أقصاه، حتى يصل إلى مستوى الاتهام والإدانة، أو الضيق ذرعاً بهم. كثيرون هم – الكتاب- الذين يجعلونني أشعر بالتذمر، والتأفف، وهؤلاء لو أتيحت لي الفرصة لن أتأخر عن هجائهم أو الاستهزاء بهم..
كل ما سبق يمكن أن يكون صحيحاً فيما لو كانت هناك صحافة حقيقية، وبسبب انعدام هذا النوع عندنا، يمكن اعتبار كل ما سبق هذياناً أو ادعاء أو تبجحاً أو تطاوساً... لكن الأهم أنه قابل للتطبيق عندما تسنح الفرصة... والحرية.
■ تحقيق: رائد وحش