في خضم التحييد والتجهيل النصيّ لماذا لا يقرأ العرب؟؟
عدم الإقبال على القراءة، ليست مسألة معاصرة كما هو معروف، بل هي مسألة تاريخية، إلاّ أنني أعتقد أن أحداً حتى اليوم، لم يقترب من السبب الأساس والجوهري، وهو أن العرب, كأفراد وأقوام، وشعوب، وأياً كان نظام الحكم الذي يؤطرهم، فإنهم في سلوكهم اليومي يمضون حسب هدى «النصوصية الميتافيزيقية»
بمعنى أن هذه الميتافيزيقيا النصية ملّكتهم منظومة معرفية، ثقافية، أخلاقية، باتت تشكل تقاليد عمومية حياتهم، ومناظيرهم، وأحكامهم، وهذا شيء ثابت، رغم كل ما يمكن أن يقال عن مخالفاتهم السلوكية الحياتية للنص، إلاّ أن هذا النص، وإن انحدر السلوك، يظل منبع القول والرؤية، والحاكم، وبالتالي فإن الفرد الذي يكبو في سلوكه، حتى وإن ظل حياته كلها كابياً، يظل متأملاً في العودة إلى حقائق النص على أنه في كبواته هذه يظل على صعيد القول، والحكم والرؤية كما قلت معتمداً على تلك المنظومة المعرفية الميتافيزيقية، التي وفرت له رؤية الخطوط العامة، تجاه الحياة والوجود، والمجتمع، دون عناء القراءة، إذ أن أيَّما شيء يلتبس عليه، ويعثر رؤاه سيجد دوماً حوالبه، أينما كان، في البيت، والشارع، والعمل..الخ.
من يرشده، إذ أن الحلال والحرام، السالب والموجب، الملائكي والشيطاني حسب المنظور الميتافيزيقي، بات عرفاً مجتمعياً متفرعاً إلى ما لانهائية بحيث أن التجربة والخبرات ضمن منظورات ـ هذه المرجعية ـ ظلّت منبثعة عن المفاجأة بأيما شأن إنساني يمكن أن يطرأ, لكون ما هو جوهري وصميمي, في النفس الإنسانية، وخصوصاً تلك الجوانب السلبية، ظل هذا الكائن العربي، يقمعها ويحاربها، باعتبارها وسواساً وكنايات شيطانية، لديه حكم ميتافيزيقي ضدها.. حكم يقيني قاطع.
تعزيز الطمأنينة أعاق القراءة
هنا نجد أنفسنا أمام مسألتين تعززان الامتناع عن القراءة، أولاهما أن المواطن العربي بمنظومته المعرفية تلك يمتلك فهماً، ومعياراً وحكماً، ورؤية، تجاه كل شيء في الحياة تقريباً، بحيث أن الحياة تبدو أمامه، واضحة تماماً، وغير ملتبسة على الإطلاق، وإذا طرأ التباس في شأن ما، فيكفيه أن يسأل أول من يصادفه، فيحل الأمر.
المسألة الثانية، وهنا يكمن الجانب الأهم والخطير لهذه المعضلة، وهي أن المنجز المعرفي الإنساني خارج إطار هذه المنظومة هو في جانبه العلماني الأهم في تاريخ الإنسانية، يشتغل إنسانوياً على تلك الدكنات المظلمة في الضمير، بحيث أن ما تعتبره تلك المنظومة ـ الميتافيزيقية ـ شيطانياً في هذا الجانب، يشتغل هذا المنجز ـ العلماني ـ على اعتباره الكينونة الأصلية للإنسان، وعلى فهمها، وكيفيات التعامل معها يتحدد مصيره، وخلاصه، بمعنى أننا سنلاحظ وفق ذلك، أن المنظومة المعرفية ـ الميتافيزقية، التي لديها حكم قاطع على مختلف الممارسات والسلوكات الإنسانية (الشيطانية) حسب معيارها ونصها، فإن المنجز الآخر ـ العلماني ـ يعدها شأناً إنسانياً طبيعياً يعمل على إشاعة أخلاق تبيح لها الممارسة ـ باعتبارها نزوعاً إنسانوياً صميمياً، يفترض تقبله أو التسامح معه، وفي أسوأ الأحوال لجم الأحكام تجاهه.
إن الرواية, مثلاً,وهي التي تكافح داخل الضمير الإنساني لتزيح بعض غباش رنّاته الجوهرية العميقة، مجترحة مقترحات جديدة للعيش الإنساني في ضوء ذلك، فإن تلك المنظومة الميتافيزيقية عملت بدأب بالمقابل على عدم نبش هذا العماء الباطني، بحيث أنه على المرء أن يقمع كل ذلك لصالح أنساقها الواضحة.
القراءة كسلاح كفاحي
إذاً الفرق جوهري هنا، فالمنجز المعرفي العلماني لا يقوم فقط على اللايقين والشك، بل أنه يدفع الإنسان، يزجه داخل ملتبس ومبهم حياتي سرمدي، فالعلمانية من حيث بناها المشادة الواضحة، لم تؤسس سوى مبدأ الحماية العامة بحيث أن دولة القانون الحامية للكيان الإنساني ونشاطه الأساس في المواطنة ـ عدالة ـ مساواة ـ حرية تعبير...الخ، فإنها خارج ذلك تركت هذا الكائن وحيداً وأعزل تماماً في مسائله الوجودية، والإنسانية، عليه أن يبذل كفاحاً لا ينتهي ليؤسس بداخله بعض المعاني داخل هذا المبهم العظيم الهائل.
ـ هنا يجب الانتباه إلى أن القراءة تصير السلاح الكفاحي الأمثل ـ لكنني أود هنا أن أسترسل قليلاً موضحاً هذا الشيء.
إن المنجز المعرفي العلماني، يكرس سعيه ضمن نسقين متعاضدين، وكلاهما ينطلق من مبدأ جوهري أساسي أولا وهو مبدأ الحرية الفردية.
النسق الأول: بناء المؤسسة والدولة، انطلاقاً من مبدأ الحرية الفردية وهذا يعني أن المؤسسة تصيغ قوانينها انطلاقاً من هذا المفهوم ولأجله، بحيث أنها كمؤسسة تؤمن له ـ الفرد ـ الحماية الأساسية التي ذكرناها سابقاً. وتؤمن له بالوقت نفسه الحراك الذي يستطيع أن يواصل من خلاله مسعاه داخل المبهم.
لذلك فإنها ـ المؤسسة ـ بتكريس حمايتها، تعطي الفرد ما يعوزه من طمأنينة داخل المجتمع، و تتركه وحيداً في مبهم الوجود الإنساني، لكنها بطبيعة الحال ـ المؤسسة ـ كونها مصاغة من مجمل خلاصات المنجز المعرفي البشري بما يخدم الإنسان، فإن هذه الخلاصات المعافاة كونها تعمل من خلال عمل المؤسسة على خلق واقع موضوعي يجسد خلاصتها المعرفية هذه ويحققها، بحيث يغدو الفرد حسب منهجها كائناً حضارياً مع الزمن، كل ذلك إنما هو تعزيز لمبدأ الحماية بحيث أن الدولة كمرشد للحقوق والواجبات، تصهر البشر في شرطهم هذا، المصاغ أساساً من منهج ومبدأ حريتهم، ويصبحون حاملين لأساسيات المشترك الإنساني في العيش، بحيث أن المعتقد في هذه الحال يكون ضمن مسعى الفرد في الخلاص الروحي، لا ينعكس ـ وممنوع عليه ذلك ـ تأثيراً من شأنه أن يغير في المؤسسة التي قامت على حوامل أصبحت واضحة.
لكن علينا أن ننتبه هنا إلى أن الحراك الفردي ضمن تلك المعادلة يبعث ويولّد مع الزمن معاني معينة، وعبر الزمن أيضاً تعمل المؤسسة على إضافة بعض هذه المعاني لها، المعاني التي تساعدها على ترميم نفسها بما يدفع أداءها قدماً نحو الأمام, في التعاطي الحيوي, مع قضايا الإنسان، وهذا يحدث عندما تشكل هذه المعاني الجديدة المتولدة عن الحراك الفردي ـ صبّاً ـ أُجمع عليه ـ في أشرعتها، وسياقاتها.
بحثاً عن شرط إنساني
لذلك فإن هذا الإنسان الفرد، ضمن هذه المعادلة, يجد نفسه بعد كل هذه المنجزات، لا يزال وحيداً، حيال مسائل لا أجوبة لها أصلاً داخل تلك المؤسسة، من نمط المسألة الوجودية، هذا إضافة إلى أن عبثه الإنساني نفسه داخل المجتمع، ورغم كل هذه المنجزات، وبسببها ـ كونها تعمل أساساً على الخدمة الإنسانية، فإن الخدمات الإنسانية ـ ومبدأ الحرية الفردية، يخلق على نحو مستمر ذلك القلق، بحيث أن الفرد يحتاج باستمرار إلى أن يتلمس نفسه أمام كل تفاصيل محيطه، فالزوجة مثلاً ليست ملكية كما الصداقة، كما الأولاد، كما كل شيء تقريباً، إنه إذاً ـ الفرد ـ سيتعلم فنون التعامل مع هذه الأشياء ـ عليه أن يطور أداءه, فليس ثمة سوى الكفاءة والقدرات، والثقافة، والتعلم شرطاً للتواصل، وأيضاً حيازة بعض الالتزام الداخلي.
تبدو المسألة معقدة أليس كذلك؟!
لكن هذا هو الشرط الإنساني الصحيح، الذي يفتح للفرد أبواب إنسانيته الحقة ـ وكل ما عدا ذلك هو تلفيقي، وشكلي فحسب، لذلك هم يقرؤون إذاً. ليس فقط ليعرفوا شيئاً عن الله بل ليفهموا أنفسهم أكثر، وهذا يخفف بالنهاية وطأة شرطهم كبشر ينوءون بحكم كينونتهم الأصلية بين السمو والانحطاط، الوضاعة والرفعة، الهشاشة والضعف...الخ.
هل أجبت أخيراً على ما كنت قد بدأت به؟!
لا شك أن للموضوع بقية، ليس مجال بحثها الآن.