فلسفة الاحتفال والعولمة

يربط الاحتفال بين الناس، الذين أنتجوا رموزه ومثله عبر سنين طويلة، فيجعل منهم شعباً واحداً.

والاحتفال هو دائماً فعل جماعي، تعود جذوره إلى النظرة الدينية للكون وللحياة. إنه تلك اللحظة الزمنية، التي كما لو تفتتح خلالها كوة صغيرة في السماء لتضيء حياتنا بنور سحري خاص ومميز. وهو يسمح لنا أن نتذكر أو أن نحس بما هو حميمي وأن ننظر إلى المستقبل بثقة.

فماذا تعني الاحتفالات في حياة الشعب؟

تعتبر الطقوس من أهم آليات توحيد وتعاضد الشعوب، ومن أقدم العناصر المكونة للدين، التي وجدت استمراريتها في الدين. ويعتقد الباحثون أن دورها الأساسي يكمن في ترسيخ التضامن بين أفراد مجتمع الإثنية الواحدة.

كما إن الطقس يمثل من الناحية الرمزية أحد أفعال القوى الكونية، الذي يشارك فيه جميع أفراد الشعب الواحد. ذلك أن أرواح الأجداد تصبح مع الآلهة بمثابة الحامية والمساعدة للناس، تقدم لهم المشورة بخصوص ما يجب وكيف يجب أن يقوموا بهذا الفعل أو ذاك. فمن خلال التعاطي الذي يجري بين الأفراد أثناء الطقوس الاحتفالية يتم التغلب على الشعور بالوحدة وعلى الإحساس بالغربة. أو كما يقال: «إن الطقس يؤمن للمجتمع أفراداً صحيحين عقلياً ونفسياً». ولهذا يلاحظ غياب مرض الفصام (الشيزوفرينيا) في المجتمعات التقليدية التي تتمسك منذ القدم بالطقوس القائمة، بل إن البعض يعتبر مرض الفصام «ذهاناً إثنياً في الحضارة الغربية»، حيث تم استبدال كل ما هو مقدس بمنتجات وبإنجازات التكنولوجيا.

مع العلم إن الاحتفال يشكل ذلك الجانب من الثقافة ذات الخصائص الإثنية الجلية والمعبرة. إنه الإرث الثقافي النوعي للشعب. فالاحتفالات وما يتعلق بها من طقوس، وباعتبارها منتجاً للفعل الإبداعي الجماعي، تصنع الشعب الواحد وتمنح ميزات فريدة.

وينتعش في لحظة الاحتفال حتى عند الإنسان المعاصر الشعور بقدسية الزمن، وأما الأشياء المرتبطة بطقوس الاحتفال فإنها تكشف عن مغزاها الرمزي المقدس. وهذا لا يتطلب المعرفة، وعنه لا يتحدثون، لكن الاحتفال الذي نقضيه مع الأقارب حول مائدة واحدة، وتالياً مع مختلف أفراد الشعب على ملايين الموائد، يعيد تجديد الفرد روحياً. وفي الاحتفال تنتعش أحداث من التاريخ القومي سبق ولعبت دوراً مؤثراً في تحديد مصير الشعب، وبالتالي فإن الناس يتوحدون غريزياً من خلال ذاكرة تاريخية مشتركة. وفي هذا الإطار يمكن النظر إلى جميع المناسبات المتعلقة بالأحداث التي تستدعي مشاعر جماعية من الفخر والمرارة، ومن السعادة والأسى. هكذا تنشأ وتتشكل ثقافة روحية تشغل مكانة استثنائية في العقيدة المركزية للشعب.

كسر التقويم:

تجدر الإشارة إلى أن النظام العولمي وما يحمله من صراعات يحاول النفوذ من الواجهة الثقافية لتحقيق أهداف بعيدة المدى. وبالتحديد يجري العمل على تدمير وتفكيك مجموعة الطقوس والمناسبات ذات البعد التاريخي والوجداني عند شعوب معينة بقصد النيل من منعتها ومن وحدتها وتماسكها. فيصار إلى بث مختلف أشكال الدعاية المشوهة أو يتم التغلغل من خلال نشر الرموز والأشياء التي تعكس احتفالات وطقوس تنتمي لحضارة أخرى. ولم يعد ذلك صعباً مع انتشار الفضائيات ومختلف وسائل وأدوات الاتصال الحديثة. وغالباً ما يجري ذلك تحت يافطات ومسميات مختلفة: بدءاً بحق الاختلاف وبالتفاعل الثقافي وانتهاء بالحرب على الإرهاب. وكثيراً ما تلعب النخب الحاكمة أو «مراكز الدراسات» والشخصيات الثقافية دوراً ملحوظاً في هذا الإطار. فإما تبرر ذلك بحوار الثقافات وبضرورة التخلي عن العادات والتقاليد البالية وإما تتبنى وجهة نظر الآخر لأغراض سياسية. وفي كلتا الحالتين يشكل غياب المبادرة من قبل السلطات أو تقاعسها عن التمسك بالروزنامة القومية للأعياد وللاحتفالات الوطنية ثغرة مؤاتية لهذا النوع من الغزو.

وهذا ما شهدناه بوضوح في التغيير والتشويه الممنهج لروزنامة الاحتفالات القومية والوطنية في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومع وصول نخب سياسية انتهازية «تعاني من مركب النقص تجاه كل ما هو غربي» إلى السلطة. ومن هنا يصبح واضحاً الربط المباشر الذي تقيمه الهيئات والشخصيات الروسية الغيورة على الهوية القومية بين الاحتفالات الوطنية مع الخطر الذي يحيق بروسيا والمتمثل في السعي لتفكيك الاتحاد الروسي. وقد درجت العادة، عند الحديث عن «المعالجة بالصدمة» في سنوات الإصلاح الأولى، أن يتم تركيز الانتباه على التخريب الذي لحق بالبنى الاقتصادية وما يتصل بها من بنى اجتماعية. في حين أنه لا يقل أهمية، إن لم يكن أكثر أهمية، ذلك التأثير السلبي والعميق الذي أحدثته الصدمة الثقافية وما تسببت به من تدمير للروابط التي تجمع بين الناس، بما في ذلك المشاركة في الاحتفالات.

فقد أثبتت تجارب الشعوب أن الأفراد الذين يحرمون من الاحتفالات يسقطون أتوماتيكياً من الطقوس ومن التقاليد. وهذا ما كانت ترمي إليه الدعاية الموجهة التي سادت خلال البيريسترويكا من نشر لثقافة الضياع وغياب الأساس الذي يتم الإتكاء عليه. فمثل الضياع وفقدان الأرضية يلعبان دور الحمض الذي يزيل الروابط، التي تجمع الأفراد في شعب واحد.

من هنا يصبح مفهوماً الهجوم الكاسح الذي بدأ منذ عام 1991 على المغزى الرمزي للاحتفالات الوطنية في روسيا. فمثلاً، أصدر الرئيس الروسي السابق يلتسين مرسوماً يعتبر فيه 7 نوفمبر، ذكرى الثورة الاشتراكية، «يوم الوفاق الوطني»! علماً أن الثورة هي صدام تراجيدي، وليس يوم وفاق. والثورة الروسية حدث عظيم غيّر مجرى التاريخ. وكان يشارك في هذا الاحتفال الشعب الروسي بمختلف مكوناته على حد سواء، بغض النظر عن المكان الذي كانت تقف فيه الأجيال السابقة من الثورة. وبنفس الطريقة يحتفل الفرنسيون بيوم 14 تموز، يوم الثورة الفرنسية. وإن مجرد الحديث عن إلغاء هذا الاحتفال في فرنسا كان سيبدو غبياً ومرفوضاً. بينما تم إلغاء هذا الاحتفال في روسيا.

والشيء ذاته ينطبق على يوم النصر. فقد سارع علماء الاجتماع الأشاوس في روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي، روسيا «المغرمين بالغرب» إلى ابتكار أساليب لتدنيس الاحتفالات السوفييتية والنيل من مضمونها. فهذا هو د.أ.ليفتشيك من كلية الفلسفة في جامعة موسكو يقدم نصائح للسلطة من أجل تشويه سمعة الاحتفال وقدسيته فيقترح: يجب التأكيد على «لاقدسية» المكان، الذي يجري فيه الاحتفال؛ أو يجب العمل على نزع صفة «القداسة» عن زمن المناسبة كأن نبرهن أن تاريخ الاحتفال غير مؤكد وغير مثبت، مثلاً، العمل على بث دعاية في وسائل الإعلام وكأن الثورة البلشفية قامت إما قبل 7 نوفمبر أو بعد هذا التاريخ. أو يجب العمل على خرق تراتبية المظاهرة، بحيث يترأسها «المدنسون» وليس «المشاركون في الحدث البطولي». مثلاً يجب السعي لكي يترأس الاحتفال بذكرى ضحايا المعركة من أجل «مجلس السوفييت».. اتحاد المساهمين في شركة مغفلة مساهمة.

ويمكن أن يلعب دور المحرض في عملية الامتهان هذه حزب يحمل اسماً «تهريجياً»، ليكن مثلاً، حزب «محبي البيرة». وقد جرى ما يشبه ذلك في عام 1991 عندما قامت ما تسمى جمعية المجانين في إحدى المدن الروسية بتدنيس اللقاء الذي نظمه المناضلون القدماء في الحزب الشيوعي السوفييتي بمناسبة الأول من أيار، وقامت بوضع إكليل عند تمثال لينين مكتوب عليه «إلى فلاديمير إيليتش لينين من المجانين». مما أدى إلى صدام بين «المجانين» والمناضلين من الحزب الشيوعي. وبالنتيجة تم تخريب اللقاء، وبشكل أدق تم تحويله إلى مناسبة ترفيهية.

وقد جرت محاولات لتدنيس الاحتفال الرئيسي ـ الاحتفال بعيد النصر. بل إن البعض يسعى للمقارنة بين هتلر وبين ستالين، ويحاول «الديمقراطيون الجدد» تضخيم الارتكابات التي حدثت إبان العهد الستاليني، خلال مرحلة الثلاثينيات من القرن الماضي بهدف تشويه الانتصار العظيم الذي حققه الشعب السوفييتي بقيادة ستالين لاحقاً في الحرب الوطنية العظمى. وكل ذلك يجري بتخطيط مدروس نظراً للدور التوحيدي والجامع ليوم النصر بين مختلف مكونات الشعب الرومسي بغض النظر عن الانتماء القومي أو الديني. ونفس الشيء ينسحب على الأول من أيار وغيره من المناسبات.

لكل هذا يجب علينا التمسك بالاحتفالات والطقوس التاريخية ذات الطابع الوطني، خصوصاً وأن بعضاً منها طواه النسيان والبعض الآخر يجري تجاهله ومحاربته تحت حجج وشعارات لا تمت للوطنية بصلة؛ وأرى أنه من الحكمة دعم وتشجيع الاحتفال ببعض المناسبات والأعياد لكي يشترك فيها الناس من مختلف الانتماءات القومية والإثنية التي تلتقي في الوطن السوري بعيداً عن أي تعصب أو عنصرية. ففي ذلك قوة وغنى لسوريةا وعبر ذلك فقط يمكن أن تتعمق الوحدة الوطنية بين مختلف مكونات الشعب السوري.

■  د. ابراهيم استنبولي

آخر تعديل على الإثنين, 14 تشرين2/نوفمبر 2016 11:37