من التراث «المعتزلة وآراؤهم»
في عهد الخليفة هشام بن عبد الملك (106 ـ 126هـ) وفي ذروة صعود الامبراطورية الأموية وعهدها الذهبي، نشأت فرقة المعتزلة وقيل في سبب تسميتها اعتزال مؤسسي الحركة واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، حلقة التابعي الكبير الحسن البصري، بعد أن اختلفا معه حول أن مرتكب الكبيرة لا مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً بل هو بين المنزلتين، فخالفوا أفكار «المرجئة» التي قالت أنه مؤمن وبعض الخوارج الذين قالوا أنه كافر وأما الحسن البصري فقال إنه منافق، ليخرج واصل بن عطاء بفكرة أنه لا مؤمن ولا كافر.
لكن إلهام أنهم ظهروا في فترة تاريخية هامة من حيث استتباب الخلافة وقوتها واستمرار التمردات الاجتماعية والقومية من جهة أخرى.
والمعتزلة فكرياً تصدوا للتيارات التي سادت «غلاة الشيعة ـ الخوارج ـ الزنادقة» لكنهم لم يدخلوا أي معركة مع الأمويين «كنظام دولة» وابتعدوا عن معارك الأمويين ضد الشيعة والخوارج، كما اعتزلوا الطائفتين المتناحرتين «علي ـ عائشة» وقد اعتنق بعض الخلفاء الأمويين مذهب الاعتزال كيزيد بن الوليد (127هـ) ومروان الثاني (133هـ).
أما في العهد العباسي فقد عاش مذهبهم ليصبح إيديولوجيا الخلافة عندما اعتنق المذهب الخليفة المأمون ويتألف مذهبهم من أصولٍ خمسة «التوحيد ـ العدل ـ الوعد والوعيد ـ المنزلة بين المنزلتين ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
وقد جمعوا في ذلك بين التفكير الديني والتحليل الفلسفي في محاولاتهم للتفسير العقلاني، ودعوتهم للتوحيد اتخذت مجرى فلسفياً إذ آمنوا بالتنزيه وفسروا الآيات القرآنية التي تصف الله ضمن مفاهيم إنسانية.. بالتأويل كما في الآية «ثم استوى على العرش» وقالوا إن الله واحد ليس كمثله أحد وليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا فم ولا شخص ولا جوهر ولا طول ولا عرض ولا عمق فهماً للآية الكريمة «ليس كمثله شيء» ثم ذهبوا إلى الاعتقاد بحرية الاختيار ونفوا قدرة الله على الظلم.
ومن هذه النظرة التوحيدية قبلوا بفكرة «خلق القرآن» إذ لا يمكن أن يكون أزلياً منذ القدم يشترك مع الله وإنما هو مخلوق لأنه جاء ليتوافق مع حاجات الإنسان وعصره فمن الممكن أن يتغير التفسير حسب تغير الظروف و تطورها.
ثم جاء تصورهم للعدل إنسانياً يقوم على ثلاث ركائز «إن الله يسير بالخلق إلى غاية الخير ولا يمكن له أن يقودهم للشر فهو حسب رأيهم لم يخلق أفعال العباد ولا خيراً لا شراً فإرادة الإنسان حرّة ورؤوا في الشر أنه من صنع المجتمع وظروف الناس وأنه بالإمكان تغيير هذه الظروف ولا يمكن للشر أن يكون قضاءً وقدراً.
وبرغم تأييد المعتزلة للنظام القائم لا يضعف إسهامهم في تنظيم وتمجيد العقل وتنصيبه سلطاناً، وقالوا أن لا حدود له إلا براهينه ولا زلل ولا خطأ متى صح البرهان.
وهذا الفكر نتج عنه ونشأ في رحابه المعتزل ابراهيم بن سيار المعروف (بالنظام) الذي سبق فلاسفة القرن الثامن عشر في أوربا حين قال «الشاك أقرب إليك من الجاحد، ولم يكن يقين حتى صار فيه شك» فأخضع كل شيء للنقاش وللجدل.
وفي رأي المعتزلة أن النهي عن المنكر يتم بالقلب واللسان واليد... وبالسيف إذا لم تغن اليد، وقد تلاقوا مع الخوارج في ذلك إلا أن عقلانيتهم أبعدتهم عن المغامرات.
ويعتبر انتساب بعض الخلفاء لمذهبهم وخصوصاً المأمون سبباً في أن لا يكونوا معارضة ثورية، فقد تحول مذهبهم إلى إيديولوجيا الإمبراطورية الإسلامية في أوج قوتها، فكان قد تألف من كبار الطبقة الحاكمة وكبار التجار والأغنياء واكتسب من هنا طابعه التقدمي، لكن انتصارهم في عهد المأمون على معارضيهم في قضية «خلق القرآن» حولهم تدريجياً عن بعض طابعهم التقدمي، وفرضهم مقولة «خلق القرآن» على الناس أدى إلى قتل وتشريد عدد من المفكرين. الذين أصروا على أزلية القرآن ورفض خلقه.
فالمعتزلة التي دافعت عن حرية الإنسان الفكرية تخلت عن هذه الحرية عندما تسلمت زمام الأمور. وسميت هذه المرحلة «بالمحنة» فكانت محنة للمعارضين ومحنة للفكر، وأدت إلى سقوط فكر المعتزلة في عهد المتوكل (232 ـ 247هـ) الذي دعا إلى وقف الجدل في قضية خلق القرآن. حتى جاء أبو الحسن الأشعري (260 ـ 325هـ) وانتصر على فكر المعتزلة بفكر محافظ تقليدي جامد ترافق مع بداية نهاية الإمبراطورية العربية الإسلامية.
ويقول في ذلك أحمد أمين: «وفي رأيي أنه لو سادت مفاهيم المعتزلة في هذين الأمرين ـ أعني سلطان العقل وحرية الإرادة ـ بين المسلمين من عهد المعتزلة إلى اليوم لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي وقد أعجزهم التسليم وشلّهم الجبر وقعد بهم التوكل».
• المرجع: من كتاب الحركات الاجتماعية في الإسلامد. اميل توما
■ هشام الباكير
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.