وسيم الدهان وسيم الدهان

فيلم «البلديون»: إعادة الاعتبار لصنّاع فرنسا الحقيقيين

الحلم بالحرية والتوق للخروج من دوامة الفقر، الحلم بخلق غدٍ أفضل، الحلم بالحب.. كلها أحلام تحطمت أمام واقع التمييز العنصري الذي مارسه قادة الجيش الفرنسي ضد الجنود الأفارقة الذين تطوعوا في أربعينات القرن العشرين، وتحديدا عام 1943، لتحرير فرنسا من قبضة النازية إثر سقوطها السريع بين براثنها في بداية الحرب..

 قاد بعض أعيان الريف، في بلدان المغرب العربي، حملةً بين القرويين في الجزائر، وفي مناطق البربر في المغرب وغيرها، بهدف تجنيد عشرات الآلاف من الشباب، للقتال في صفوف بقايا الجيش الفرنسي، تحت شعار (أنقذوا فرنسا). وشملت حملة التجنيد شبّاناً من المغرب والجزائر وتونس، كما شملت أيضاً متطوعين كثر من البلدان الأفريقية الأخرى التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار الفرنسي آنذاك، وبلغ عدد المجندين الأفارقة الذين قاتلوا ضد النازية في أوروبا، من أجل تحرير فرنسا، نحو 130 ألف جندي.
هذه الحقائق التاريخية هي التي أسست لفيلم أشكل اسمه في كل لغة ترجم إليها، وهو فيلم «Les Indigènes»، أو كما عُرف بالعربية: «البلديّون»، حيث تظهر أحداث الفيلم حماس الجنود الأفارقة لإنقاذ فرنسا، مدفوعين برغبة حقيقية لإثبات الذات، وليس استجابة للشعار الذي رفعه الجنرال شارل ديغول: «إن الدفاع عن حرية فرنسا، هو دفاع عن الحرية في العالم»..
وقد جاء الفيلم مخلصاً لرؤية مخرجه الجزائري «رشاد بوشارب» الذي تعاون في إبداعه مع كاتب السيناريو الفرنسي «أوليفير موريل». وتم إنتاجه بالاشتراك بين كلٍّ من فرنسا، الجزائر، والمغرب، ولعب التمويل الفرنسي دورا أساسيا في توفير الإمكانيات التقنية الكبيرة التي جعلته يخرج بصورة احترافية ممتازة.
نجح المخرج «بوشارب» نجاحاً باهراً في إخراج الفيلم، بكل عفوية وبساطة، مع الحرص الشديد على الدقة في تصميم المشاهد، كما نجح في إبراز هوية أبطاله، فإلى جانب حوارهم باللغة العربية، هناك محافظتهم على ارتداء زيهم الوطني تحت الزي العسكري الفرنسي، فضلاً عن استحضارهم الدائم لله، عبر تمتمتهم لآيات قرآنية كلّما واجهتهم صعوبة في موقف، أو نزلت بهم نازلة ما.
بوبكر، مسعود، سعيد، وياسر...هي الشخصيات المحورية في فيلم «البلديّون». وهؤلاء يكافحون للتخلص من التمييز الذي يمارس ضدهم من قبل الضباط الفرنسيين، وعلى عدة أشكال، فتارة تمييز في المأكل، وتارة في الترقية، وتارة ثالثة بالحبّ، ليبرز دور «بوبكر» قائداً للاحتجاجات المتكررة، انطلاقاً من وقوفه للدفاع عن حق الجنود الأفارقة في أكل الطماطم مثلاً، كغيرهم من سائر الجنود، وصولاً إلى حقهم في الترقية شأنهم في ذلك شأن الفرنسيين الذين اعتبرهم «بوبكر» أخوة له في الحلم، والإنسانية، والنصر!.
أما «مسعود»، فهو العاشق الذي تربطه قصة حب مع «إيرين» الفرنسية، والذي حكَمت عليه الرقابة العنصرية، بحجب رسائل حبه، وحرمانه من أبسط ممارسات الحب، كونه أفريقي الأصل، ليموت واقفاً وفي قلنسوته صورة حبيبته الضائعة!.
و«سعيد» الإنسان البسيط الذي طلبت منه أمه العودة إليها حياً كي لا ينفطر قلبها، فيضحي بحياته في محاولة لإنقاذ الضابط الذي أغرق في التمييز ضده وضد أخوانه، ليموتا معاً.
بينما يصمم «ياسر» بعد مقتل أخيه «العربي» على أن دمّ أخيه لن يهدر رخيصاً، فيسعى مع رفاقه لتحقيق النصر، وبالتالي تحرير فرنسا على طريق تحرير الوطن، لكنه يقتل هو الآخر، في حرب ليست حربه، على أرض غير أرضه، في ملحمة قام أربعتهم برسم سطورها القاسية، لتنام أرواح ثلاثة منهم دون رقيب، أو ممارس للتمييز، إذ لا تمييز بين الموتى، مهما اختلف شكل الضريح...
عمد «بوشارب» إلى فتح صفحة سوداء من صفحات التاريخ الفرنسي، مقدماً الوجه الآخر للأحداث من وجهة نظر صانعيها، أو على أبعد تقدير، المشاركين في صناعتها..
ولعل الهدف الأساس من الفيلم، هو الكشف عن التنكر الآثم لفرنسا في تنفيذ الوعود التي قطعتها، بالحرية والمساواة وتحرير الأوطان، لصانعي المجد من الجنود الأفارقة..
ومن الواضح أيضاً، أن الفيلم جاء رداً على ممارسات الحكومات الفرنسية على تتابعها، تجاه المواطنين الفرنسيين ذوي الأصول الأفريقية، العربية، والإسلامية، وعلى المحاولات المستمرة للإبقاء على أرواح صانعي المجد الفرنسي، خارج الصورة، في زمن تتبجح فيه هذه الحكومات وغيرها، بأنها صانعة الحرية وأكبر مروجيها، والمدافعين عنها في العالم!..