مدارات والكوميديا السوداء..
يُحسب حسابه للمذيع نضال زغبور ولبرنامجه "مدارات"، الذي تبثه الفضائية السورية، أنه مهتم بقضايا "الحداثة"، تنظيراً وممارسةً، في شتى المجالات الفكرية والإبداعية والثقافية والسياسية. لكن محنة هذا الرجل تكمن في بعض ضيوفه، الذين رغم ألقابهم الكبيرة، كثيراً ما يسببون له الخذلان، فيكسرون السياق الطبيعي والمتوقع، ليهوموا في مناطق أخرى لا يمكن إدراجها في مناطق الأجوبة المرتجاة، بشكل تبدو فيه "الحداثة" بعيدة وغريبة عن مناخنا الثقافي!..
نضال زغبور الذي يؤسس لبرنامجه بضرورة الحوار وقبول الاختلاف مع الآخر تمهيداً للوصول إلى "المشترك الإنساني"، كثيراً ما يرى برنامجه وهو ينزلق إلى مناطق الكوميديا السوداء، بفضل الضيوف غير المعتادين على طريقته في صوغ الأسئلة، أو غير الملائمين لتأليف أجوبة ارتجالية تأتي كامتداد واستجابة لجدل صاعد، أو ينبغي أن يكون هكذا..
في واحدة من الحلقات الأخيرة، كانت "القراءة" موضوع النقاش الذي اشترك فيه الدكتور عبدالنبي اصطيف، والروائي خيري الذهبي، إضافة إلى عدد من المداخلين عبر الهاتف، جاهدوا –جميعاً- للإجابة..عن العوامل والظروف التي تتحكم بالعملية القرائية. والسؤال ما زال مطروحاً وقائماً ومشروعاً: ما الذي يتحكم بعملية القراءة، أهي الثقافة أم التربية أم الأخلاق؟
لا جديد في الأجوبة، وهذا ليس مفاجئاً، لقد تم – كالعادة- استهلاك الأفكار الرائجة، واستثمارها بنبرة التأستذ والتقول،فما من إضافة خاصة. وهذا يعني أننا سنحصل على أجوبة ممجوجة. وإذا كانت قابلية النص للانفتاح وتعدد القراءات..مقولة سائدة، وطافية، إلا أنها ستغري الروائي خيري الذهبي لتوظيفها لصالحه، ولصالح روايته "حسيبة"، وسوف يعلن لجمهور المشاهدين أن هناك عشرة آلاف "حسيبة" بعدد قرائها العشرة آلاف (!!)، مضيفاً..أنه من الممكن أن يكون هناك خمسون مليون "حسيبة" فيما لو طُبع من الرواية خمسون مليون نسخة، على غرار الروايات العالمية. مسكين "رولان بارت" فهو لم يكن يعلم أن مقولاته في القراءة سيتم استثمارها على هذا النحو. والحقيقة البسيطة أنه ليست جميع النصوص قابلة لتعدد القراءات، وإذا كانت قابلة لتعدد القراءات فهي تتعدد بتعدد القارئ، لا من الناحية الكمية، بل من الناحية النوعية، وهنا علينا أن نتنازل (ونتواضع) عن الرقم الذي ساقه الروائي الذهبي.
الناقد الدكتور عبدالنبي اصطيف، في سياق إجابته عن سؤال يتصل بمناخات القراءة، يعلن، بكثير من اليقين والتقليدية، أن النص صرح ( بكسر الراء لابفتحها)، بشكل يدلل على "لاتاريخية" النص، بمعنى أن النص لا يخضع لإحداثيات الزمان والمكان، فهو يتجاوزهما ويتعالى عليهما (!!)، وهذا أمر غريب فعلاً. ففي الوقت الذي يجاهد فيه المثقفون والمفكرون المتنورون لإفشاء فكرة "تاريخية" النص، والنص المقدس في خطوة أكثر شجاعة، بمعنى إمكانية تأويله تبعاً للزمان والمكان، متحملين أقسى الردود والمواقف (نصر حامد أبوزيد، مثالاً)، يفضل ضيف برنامج "مدارات"، الدكتور القادم من السوربون، ورئيس الهيئة العامة للكتاب (وهي هيئة مستحدثة)، يفضّل أن يتحفنا، بعقلية ذات بنية فقهية، بأن النص (مطلق نص) صرح..
المداخلات عبر الهاتف لم تضفْ شيئاً مهماً، فجميع الدكاترة نهلوا من السائد والعام ، دون أن يكون باستطاعتهم أن يبعدوا صيغة التلفيق والتحضير والإتفاق المسبق. وكالعادة، أيضاً، من دون إضافات مهمة..
ثمة لحظات كثيرة – في هذا البرنامج- يمكن إدراجها في مستويات القول المعرفي والنقدي والفلسفي، وهي لحظات تُحسب للمذيع المثقف نضال زغبور..الذي يؤثر أن يرتاد المناطق الشائكة والملغومة والإشكالية، في مرحلة يبدو فيها الاقتراب من هكذا مناطق عملاً يعجز عنه الكثيرون.
لكن الصحيح أيضاً، أن هناك لحظات تتحول إلى متاهة حقيقية مليئة بالتناقضات، بشكل يكشف عن غياب الرؤية المتكاملة لدى "الضيوف"، الأمر الذي يأخذ تلك اللحظات إلى مناطق الكوميديا السوداء!..
ولا يغيب عن ذهني مطلقاً، كلما شاهدتُ هذا البرنامج؛ إحدى تلك اللحظات، حين سُئل الدكتور الضيف المتخصص بالعلوم الشرعية، كيف يقرأ نصاً (مقدساً) وفق معطيات الحداثة. فكان جواب الدكتور..الحديث عن السياحة الدينية، وضرورة استثمار الأماكن الدينية في بلادنا (!!). وبدا أن الدكتور على استعداد للاسترسال في الحديث، إلا أن الإجابة الخاطئة دفعت الضيف الآخر للإجابة!!..