حازم العظمة حازم العظمة

بلاد تهلكها الأسوار

منذ أن « يؤسس» أحد ما لـ «ملكية» ما، حتى يحيطها بالأسوار.. إن اشترى عقاراً أحاطه بالأسوار، إن تزوج وضع الأسوار على «حَرمه»، من القماش الأسود، يمنع عنها الهواء والضوء، أدعى للاطمئنان..

بطريقة لا تختلف كثيراً.. المدراء يحيطون «ممالكهم» بالحجّاب والأزلام .. بكائنات لها هيئة الكآبة، لها ربطات عنق ٍ من أناقة مزورة، لها أورام حديدية في الخصر، كما في الرأس...

 أسوار في كل مكان، في كل شيء والأسوار البشعة أصلاً يزيدونها بشاعة ًبأن يزرعوا عليها «الفوانيس» من حديد بشع مزخرف، كل مترين فانوس، أدعى للوجاهة... والهباء

النتائج مأساوية، بلاد تراها إن نظرت إليها من بعيد، من الجو مثلاً، أسواراً لا تنتهي، أسواراً رثة صفيقة من البلوك والدعائم الإسمنت وبوابات عالية قبيحة تشبه ما يعتبر، بتلك الذائقة، «أقواس النصر».

ترى البلاد من الأعلى، كما من الأسفل، مزيجاً من أسوار وأكياس نايلون سوداء...

 لا يهم ما الذي بداخل السور، لا يهم أن تعبر، أو لا تعبر، من هذه البوابات، مواكب «نصر» ما، حضوره، المدير، وأزلامه هو «النصر»..

تبقى لسنين أرضاً خربة، أو تنشأ في وسطها منشآت لا تنتج شيئاً، ولا تؤدي أي غرض كائناً ما يكون، سوى أن تؤوي الطفيليات، أشخاص يقضون حياتهم في حراسة هذا الهباء، محاطاً بالأسوار، ودائماً ثمة فرصة ما، ليسرقوا شيئاً ما من هذا الشيء المسروق في الأصل..

يوماً ما في هذه البلاد، منذ سنين طويلة، وحتى منذ عهد ليس بعيداً كان يمكنك أن ترى شجيرة طَرفاء طليقة في الهواء لم تعلق بأغصانها أكياس النايلون، كان يمكنكَ أن تصادف غزالة لا توقفها أسوار.. ( قبل أن تنقرض الغزلان )، كنت ترى عُجولاً ترعى طليقةً في جبال بلا أسوار، حجلاً وقبراتٍ، وسندياناً وكثباناً وتلالاً حقيقية، لا أكوام نفاياتٍ وأنقاضاً.

الأنقاض والنفايات وأكياس النايلون والأسوار ينتجها الطفيليون والمهربون، حراس الهباء من كافة الأصناف والعيارات، كل واحد من هؤلاء عليه أن «ينتج» شيئاً، أن «يتحرك» ليضيف إلى المشهد شيئاً ما.. بشعاً، سيهدم الأسوار القديمة ويستبدلها بجديدة تشبهها وأقبح، سيهدم الأسواق القديمة والبيوت القديمة الجميلة الممتلئة بالحياة ليستبدلها بالـ «المولات»، والأنقاض سيرميها في أقرب برية، حتى لا تعود برية، ما «ينتجه» في هذا شيء واحد: ريع العمولة وريع التهريب، ذلك يعنيه بالتأكيد، ولكنه يعنينا أيضاً...، إن كان ثمة سور قديم ودكاكين وحارة عمرها ألف سنة، سيهدمها، لأنه حريص على «تجديد المناظر»..

 «تحديث المناظر» يحدّث العمولات و«ريع» العمولات، إن كان ثمة بناء جميل، أثرياً كان أم لا، سيهدمه، سيستبدله ببناء «حديث» من نمط الأبنية (التي يسميها «حضارية»)، ما هو حضاري في هذا المفهوم هو ما يستهلك مواداً غالية وذائقة فاسدة..

 «حضاري».. ولكن بالمفهوم المحلي.. أي يشبه الزرائب، ولكن مزينة بالرخام الباهظ والسيراميك.. المدارس تشبه الزرائب، المعامل تشبه الزرائب، دوائر الدولة، الحدائق، الساحات، كل شيء يشبه الزرائب.. وأسوار، أسوار لا تنتهي، في البراري، في الهضاب، أمام البحر، وراء البحر لا يهم.. في البادية، في كل مكانٍ أسوار، أسوار لا تنتهي، ثمة منطق ما في هذا يعمل ربما على «اللاوعي»: يحيطون الهباء بالأسوار حتى لا نراه، حتى لا ينكشف.

في الطبيعة ثمة ما يدعى بـ «المجال» تقيمه الكائنات لتحدد منطقتها، نظام مركب من روائح وعلامات، الكلب، مثلاً، يبول على حدود «مجاله»، حدود «منطقته»... لا يترك أثراً سوى الرائحة... لا يشتمّه إلا هو، وأبناء نوعه، لا يغلق الأفق، ولا يحجب البحر أو الصحراء.

أنا شخصياً أنحاز لأسوار الكلب: أثر من رائحة لا يشتمها سوى أبناء نوعه، أسوار لا تُرى، لا تمنع الريح، لا توقف الأرانب ولا الغزالات، لا توقف المتـنـزهين والدرّاجين والعاشبات، لا توقف العين وهي تبحث عن أفق بعيد، مفتوح...