مهند صلاحات مهند صلاحات

عفاف خلف في «لغة الماء»: الواقع الفلسطيني أثناء اجتياح نابلس

وظفت الأديبة الفلسطينية عفاف خلف في تجربتها الروائية «لغة الماء»، الصادرة عن منشورات مركز أوغاريت للترجمة والنشر 2007، لغتها الشعرية الدافئة وذاكرتها اليومية لتخرج برواية تحكي بها الواقع الفلسطيني بكل تفاصيله، بنقد لاذع لحالة التراخي التي أصابت مرحلة النضال الشعبي، والمؤسسات الرسمية، مازجة بين رقة الكلمات وشاعريتها، وقسوة الرمزية والدلالة، ما بين الحنين للماضي، والغزل الجميل في المدن القابعة على صدر البحر المتوسط، إلى مشاهد الدمار والمعارك، التي يصفها صوتان يرويان الحدث في داخل الرواية.

بدأت عفاف روايتها بحديث «محمد العربي»: أحد المقاومين الفلسطينيين في مدينة نابلس الذي عاصر الانتفاضة الفلسطينية الأولى، واعتقل في سجون السلطة بسبب مواقفه السياسية، وصولاً إلى انتفاضة الأقصى الأخيرة، حيث يعيش الحدث مع حبيبته «فاطمة»، مازجةً الظرف السياسي، والحضور المكثف للمعاناة اليومية، بقصص الحب، التي تنمو وسط الدمار والحصار، لتتغلب على حالة الانكسار، ويكبر فيها الشعور الإنساني، فتقدمَ صورة لمن لم يعش الحدث، بأن الفلسطيني رغم الموت والدمار، ظلّ قادراً على الحب والعطاء.

لم تنسَ عفاف خلف الجانب الأهم أدبياً وفكرياً في توظيف الحكاية الشعبية ضمن نسيج الرواية، فهي الذاكرة التي تحاول حفظها وتدوينها، وإبقاءها حية خوفاً من ضياعها وتلاشيها.

ورغم كل ذلك الحنين، والشاعرية في الوصف، إلا أنها لم تكن لتخرج برواية رومانسية في استعراض الواقع، أو محاولة لاستنساخ حلم جميل، بل كانت أكثر قسوة على واقعها من حدثه، فقد جسدت الحالة الفلسطينية والعربية ببطلة روايتها «فاطمة»، الفتاة التي أصيبت في الانتفاضة الأولى، لتبتر على أثر الإصابة ساقاها فتغدو مقعدة، وقبل الحادثة كانت مرتبطة بمحمد بخطوبة، ولكن إثر اعتقاله، وإصابتها، تم فسخ هذا الارتباط، لكن علاقة الحب التي تربطهما بقيت مستمرة حتى بعد زواجه، وتتوج أثناء الاجتياح بعلاقة جسدية، لتشير بذلك إلى الدور العربي والفلسطيني الرسمي المبتور والعاجز، حيث تقول عفاف في نهاية الرواية بإحدى الحواشي الموظفة في النص على لسان فاطمة: «ماتت شجرة الياسمين، أحرقها القصف فلفظت آخر أنفاس الزهر رماداً أبيض، حمدت الله، خفت أن تتسرب إليها حمرة الشوارع، فينز من أغصانها الدم بدل البياض، وكأنما إجلالاً لسطوة الموت، ارتدت السواد. ذكرتني به، بموتنا الأبيض».

وكان هذه الحاشية هي الفكرة الأساسية القاسية التي أرادت الكاتبة إيصالها، في نقد حالة الفوضى والفلتان، وحالة من النضال العبثي في المرحلة الأخيرة من الانتفاضة في كلمة «موتنا الأبيض» أي الموت دون ثمن، ودون تحقيق مكاسب من هذا الدم المنسكب، وحالة الضياع التي يعيشها الإنسان  الذي كان شجرة ياسمين بيضاء واحترق، في حين جسّد «محمد العربي» لديها حالة التناقض والاختلاف بالوقت ذاته، فهو الشارع الذي حاولت أيضاً كسر القدسية والهالة التي وضعها الإعلام حوله، بأن الفلسطيني شخص عادي، يحب ويكره، ويتخلى عن حبه حين يشعر بعجزه، وهو أيضاً قد يغدو رغم حالة الحرب والنضال التي يعيشها خارجاً عن منطق الأعراف والتقاليد بأن يظل على علاقة مع محبوبته التي تخلى عنها وبعد أن تزوج، وبالوقت نفسه وجاءت على لسانه لغة الرفض مباشرة وواضحة للحلول المرحلية في أكثر من موضع في الرواية. وهناك في الرواية كذلك شخصية آمنة، وهي جارة فاطمة، زوجها عاطل عن العمل، ويتعرض لها بالضرب أحياناً، تتعرف خلال الاجتياح على واحد من «المقاومين» لبيب عبدان وهو المسؤول اللوجستي لمجموعة «محمد». شخصية انتهازية، تحمل من الآفات الكثير، وتربطه بآمنة علاقة، ويعرفها على العميل «مصطفى الناظم» الذي يقوم برصد محمد ويودي به... ومن خلال شخصية لبيب عبدان أشارت بشكل واضح للفلتان الأمني وفرصة ظهور الشخصية الانتهازية، وأنها بداية في طيات الرواية بذكر محمد شيء عن تحويل المطاردين لفئة منبوذة ومطاردتهم، وهي ما تنبئ عنه المرحلة القادمة... وتوضح ليبدو مباشراً أكثر على لسان فاطمة عندما تلتقي محمد بعد انتهاء الاجتياح. وربما يكون المأخذ الوحيد على هذه الرواية أنها تناولت بعض أبعادها ونقدها بشكل مباشر، ولم تكن رمزيتها كافية، حيث كان للحواشي أيضاً إلى جانب التفسير والتوضيح، اختزال بعض وجهات نظر كان يفترض أن يصل إليها القارئ.

أهمية هذه الرواية أنها تؤرخ لفترة، أو مرحلة هامة ومفصلية عاشها الشعب الفلسطيني أثناء الاجتياح الصهيوني لمدينة نابلس في نيسان 2002، حيث جاء اجتياح المدينة كمكمل لعملية السور الواقي التي طالت الضفة الغربية وقطاع غزة، حاولت فيها مزج الواقع بأحداثه، عبر الخيال الذي وظفت فيه شخوصها للفت انتباه القارئ من أجل الاطلاع على هذه الكارثة، التي لم تأخذ حقها في الإعلام، ولتكون جزءاً من تاريخ المدينة وسيرتها.

ولأن هذه الرواية كتبت لتوثيق مرحلة من مراحل تاريخ الشعب الفلسطيني، فلم تنس الروائية كذلك أن تسقط الماضي وتعيد استحضاره في الواقع، فهي ترسم صورة نكبة سنة 1948 ذاتها، في مقاربة لمشهد اجتياح المدنية الحالي ذاته، فتقول خلف: ورغم المباشرة في التفصيل والرواية والنقد، والتي قد تبدو متشائمة إثر الحدث الذي لا يدعو للتفاؤل، إلا أنها علقت آمالاً على شيء جميل يلوح في الأفق، وأبقت هذا التفاؤل ملكاً لمستقبلْ لا نملك إلا أن نحلم بمن يأتي ليصنعه. 

■ كاتب وصحفي فلسطيني

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الأحد, 20 تشرين2/نوفمبر 2016 22:31