في مهرجان القامشلي الشعري الثاني أشياء لا يمكن أن تقولها إلا مدينةٌ كهذه
الطريق البرية إلى مدينة القامشلي طويلة وشاقة إلى درجة تتساءل فيها: كيف لسائق الحافلة تحمّل كلّ هذا العناء؟
كان الوقت ليلاً، وكان الليل وقتاً مفتوحاً لا تستطيع فيه إغماض عينيك، فمرة أخرى يتأكد لي أنني ما أزال غرّاً في الترحال وشؤونه، ومن الصعب عليّ التوقف عن النقّ والتذمر لاعناً الساعة التي وافقت فيها على خوض هكذا تجربة.
والطريق الليلة لا تنبي عن خبر، سوادٌ بسوادٍ كانت سورية، حتى خامرني إحساسُ يونان المحبوس في بطن الحوت، وياللمنكوب بمحنة الظلمات!!
كلّما لاحت أضواءٌ في البعيد نعرتُ بالكوع صديقي قيس مصطفى: دونك ذلك.. ثمة حياة. ويالمرافقة واحدٍ كهذا القيس الطويل! دائماً ما أسبّ أباء وأمهات الطوال والبدناء، على حدّ سواء، لكونهم يأخذون حصتنا في مقاعد السرافيس. والطامة هنا أن صحبة كهذه ستستمر لتسع ساعات، كثيراً ما شعرت خلالها أن ركبته تخترق كبدي.
مع الوصول تنسف فكرة التعب كلياً، وتحلّ محلها الرغبة في البقاء سهرانين طوال اليوم. لا شيء يعيق الجسد، لا الحرارة الغليانية، ولا نهر الكحول المدرار، ولا التسكع الطويل بصحبة الأصدقاء. في الحقيقة السعادة تبعث النشاط.
مدهشة هذه المدينة، كل ما فيها مثيرٌ وعجيب: ناسها، شوارعها، بيوتها، قراها الصغيرة، نساؤها، ليلها، نهارها، شعراؤها...إلخ. ومع أننا أتيناها من أجل مهرجان الشعر، لم نكن نفكر بالشعر كثيراً، فهي ذاتها شعر شهي، أينما جئتها تجد النصّ في متناول القريحة.
منزل الشاعر محمد المطرود مضافة للشعراء الوافدين، بيت صغير بثلاثة غرف، وحديقة تظللها عريشة، لكنه اتسع واتسع، أكثر وأكثر، ليستوعب أوهام ضيوفه، المقدودين، أصلاً، من وهم. وكانت ربابة الشاعر طالب همّاش كفيلة بفضّ اشتباكات النقاشات حول الحداثة الشعرية، ومكابدات النص، لتحوّله إلى أغنية لفهد بلان أو لسميرة توفيق.
في السابعة مساءً نشدّ إلى المركز الثقافي لنستمع إلى القراءات الشعرية، ولك أن تذهل بحجم هذا الإقبال والتفاعل، لدرجة الوقوف أمام السؤال المحير: أما يزال الشعر ضرورياً إلى هذا الحد؟
وتستمع إلى قصائد حقيقية من طه خليل وهو يحاول تفسير حالة حبّ في قطار يسير بسرعة (300)كم في الساعة. وإلى قيس بقصائد توغل في تلوين العالم بالأزرق، ومحوه، أيضاً، بالزرقة ذاتها. وكذلك يتواطأ المطرود وأديب حسن محمد على التشبيب بحمص، كما لو أنهما يقصفانها.
تفوت علينا قراءات عيسى الشيخ حسن وطالب هماش وآصف عبد الله، كما تحضر قراءات أخرى كنا نتمنى تفويتها.
ونتعرف في اليوم الثالث على أصوات شعراء المدينة الذين لا نعرف، أو سبق وسمعنا عنهم دون أن نعرف حقيقة نتاجهم، ومن الطريف أن يبدأ الشاعر راكان حسو إلقاءه بقصيدة كتحية للجمهور، ومن ثم يعلق: (كنت مجبراً على قراءتها)، ولا ندري من الذي أجبره، أهو مدير المركز الثقافي الأستاذ عبد الله الملالي؟ كيف ذلك وقد عرفنا فيه رجلاً طيباً ومنفتحاً ولا يجبر أحداً على شيء؟ ربما هي حركة أشبه بلقطات الكاراتيه في الأفلام الصينية من الشاعر! ويقرأ: بنيان السلامة، وعمار الجمعة، ومحمد مصطفى الزقزاق، ومروان شيخي، وأحمد حيدر، وحيدر هذا هو الاكتشاف شاعراً وإنساناً، شخصاً ونصّاً، فمن الجهة الشخصية يعيش هذا الرجل صعلكة خاصة للغاية، حيث تتبختر حياته في أصقاع المدينة ملأى بالصبوات والحب و الرغبة بالانعتاق والتحليق، يعود وهنا نتحدث عن الجانب الشعري ـ ليكتب خساراته.
كما لو أنه يجسد عناوين قصائده (كاهن القلق) و(سفير الحزن). ولعله في كتابة ندمه المدوي، وألم ذاته الملتهب، يغفل عن شيء بالغ الخطورة، ضرورة وجود شخص مثله يحمل أعباء ذاك الشمال.
في الختام يقدم الناقد هايل الطالب قراءة نقدية، ويصطدم بمدير الثقافة هناك الدكتور أحمد الدريس الذي يبدو ضدّ هكذا مبادرات، ودون مبررات مقبولة يضع العصي في الدواليب، أملاً منه، وهذا ما لا يخفى على لبيب، على إفشال هذا العمل.
مهرجان القامشلي الشعري يحتاج المزيد من التطوير والتنوع، لكنّ هذا لن يكون بالإمكان ما لم تقدّم وزارة الثقافة العون اللازم، وهو ما بات ملحاً وضرورياً في الدورة القادمة، وإلاّ فإن الجهود الفردية التي يبذلها الشباب، كما بذلوها من قبل، ستذهب أدراج الرياح.
الخارج من الشمال الشرقي، لا شكّ، سيصاب بفقدان توازن، ويذوق ألم آدم بعد خروجه من الجنة، إلا لِمَ ما أزال دائخاً حتى اللحظة؟