وفيق أسعد في(مبهورون بالباهت): حداثة السرد في اللغة الشعرية والجملة القصيرة والتكثيف

صدرت عن دار البعل للطباعة والنشر مجموعة قصيرة بعنوان «مبهورون بالباهت»، يبلغ عدد صفحات المجموعة المذكورة أربعين ومئة صفحة، وهي من الحجم الوسط، وتضم بين دفتيها إحدى وثلاثين قصة.

تمتلك مجموعة قصص (مبهورون بالباهت) للقاص الشاعر وفيق أسعد (دار بعل )، جميع أدوات الحداثة في فن كتابة القصة القصيرة، فقد تخلصت من أسلوب السرد الإنشائي الطويل، ومن الحدث المحدد، ومن الحبكة، وقد تداخلت فيها الأزمنة واعتمدت على التكثيف إلى أقصى الحدود، وتركت أسلوب الانفلاش إلى آخر ما هنالك من أساليب وتقنيات حديثة.

ففي مجال الضمائر اعتمدت المجموعة على الضمائر المتكلمة في القص، فمن مجموع إحدى وثلاثين قصة هناك خمس وعشرون قصة كتبت بضمير المتكلم، وثلاثة كتبت بأسلوب الغائب، وثلاث كتبت بأسلوب المخاطب. والكتابة بأسلوب المتكلم تعني حضور المؤلف القاص في القصة حضوراً كاملاً في الأحداث، و الحوارات، والتحركات، ومشاركته في التحولات. أما الكتابة بأسلوب المخاطب فأيضاً أسلوب حديث ومتطور. أسلوب الكتابة بالمتكلم ربط القاص بالقصة برباط فني. فالقصة تنحو نحو الذاتية، والوحدانية، والدخول في عمق الذاكرة، والذات.

قصص المجموعة مشوقة تشد القارئ إلى قراءتها، وبعضها يشده إلى الاستعادة، والتشويق في القصة القصيرة أسلوب جميل يحسب للكاتب، ويعبر عن مهارة، وتمكن من طرح الفكرة، والتعاطي معها بسهولة، ويسر.

اللغة الشاعرية كانت سمة مميزة في المجموعة، فالجمل الشاعرية كثيرة، ونستطيع ضرب أمثلة عديدة عليها هي: (الآلهة التي تسكنك غادرت) ص21 ، و (أعشق زرقة البحر ولا أحب أن تتلوث) ص2

وغير ذلك كثير، والشاعرية لغة عالية الأسلوب لا يتقنها كل قاص، وهي تحلي السرد، وترفعه إلى أمكنة بعيدة، غير معروفة لنا. وإذا استطاع القاص ذلك فإنه يحقق إحدى غايات القص، وهي الكشف، والاستكشاف والوصول إلى معرفة أوسع. و الكتابة باللغة الشاعرية أسلوب تقني حديث، يرفع من سوية العمل.

الجملة في قصص المجموعة قصيرة، ومتوسطة، أما الجمل الطويلة فهي نادرة. والكتابة بالجملة القصيرة والمتوسطة تعتمد التكثيف، وتعطي التوتر، والانفعال، ولا تدع للحشو مكاناً ولا للترهل الذي يمكن أن يتواجد في الجمل الطويلة، وتستغني عن التكرارات. وأسلوب الجملة القصيرة أسلوب متطور عن أسلوب القصة الكلاسيكية. وهو يبعد التفسير، والتوضيح الممجوج الذي يلجأ إليه بعض الكتاب.

عناوين مجموعة (المبهورون بالباهت) عناوين جميلة وجيدة في آن ويبدو أن الكاتب تعب عليها كثيراً. وهناك بعض العناوين العادية فيها مثل: ـ أرق.. أرق ـ بويضة فاسدة ـ إن كنت ابن حرام فأنت أبي .

أما باقي العناوين فمثلما أشرت فهي عناوين جيدة، فمن عنوان المجموعة (مبهورون بالباهت) حتى عناوين القصص نجد أن العناوين موحية عالية الشاعرية تخلق لنا صوراً غير معروفة. أي تحقق فنية راقية، والعنوان في القصة الحديثة لم يبق كما كان سابقاً أي نقراً القصة من عنوانها بل أصبح مرتبطاً بقيمة القصة فنياً. وفي المجموعة عناوين جميلة جداً كالعناوين التالية: «تراقصني مرئية وغير مرئية» «سراديب السماء السرمدية» « قان وأساطير عينيها». وهناك عنوان أعتقد أن فيه تناصاً مع بيت شعر لميخائيل نعيمة وأنا لا أقول تناصاً إنما أعتبره تأثراً فهذا العنوان هو:(ركن بيتي حلم... سقف بيتي خبز). أما بيت نعيمة فهو: سقف بيتي حديد/   ركن بيتي حجر..وقد يكون من قبيل توارد الخواطر. المهم أن عناوين المجموعة حققت الغاية من وجودها.

في المجموعة حوارات خارجية كثيرة لم تخل منها سوى ثلاث قصص. ولقد حلت لغة الحوار الخارجي المكثف المجموعة، والحوار لغة حديثة في القصة القصيرة، وهي تعني المشاركة في عمق القصة، والدخول في مناخاتها الذاتية والروحية والوجدانية.

أما الحوارات الداخلية فكان وجودها أقل من الحوارات الخارجية، وهي تعني حديث الإنسان لنفسه، وحديث الذات الداخلي لنفسها، ووجود مثل هذه الحوارات في أي عمل هو تقنية حديثة في لغة القص، وأسلوبه يدل على مقدرة الكاتب في الغوص في الأعماق، والخروج من سطح الأشياء، وحوارات القاص الداخلية حوارات فيها الأسئلة، ومحاولة الإجابة عنها، وفيها جماليات خاصة كما في قصة (أرق.. أرق) مثلاً.

في المجموعة عدة قصص لها نهايات مفتوحة، يبلغ عددها إثنتي عشرة قصة، يشكل هذا الكم أكثر من ثلث المجموعة، منها: «قاف وأساطير عينيها »«بنات وردان».

والنهايات المفتوحة للقصص تعطي القارئ فسحة للكشف ولوضع منها مختارها هو، ولا يختارها له القاص، وتعني مشاركته بشكل ما بالعمل.

وهو أسلوب تقني حديث جميل:

أما قصة المفارقة التي تحمل الدهشة و المفاجأة، ففي المجموعة قصة واحدة من هذا النوع وقد حققت فنية عالية فهي قصة: (رنموا لموت القناطر)، وهي قصة فيها الإدهاش، والوقوف ثم السير، والانعطاف خلال زمن معين.

هناك ملاحظة يجب ذكرها هنا هي قضية البدوي في قصة (لا تنسى جسدك في سريري) ص16، فالقارئ لهذه القصة يظن أن هناك استهانة بالبدوي. فلو استبدل القاص كلمة البدوي بغيرها لكان أفضل.

مجموعة «المبهورون بالباهت» حققت فنية جيدة، وقدمت لنا أجوبة في لوحات فنية عميقة عن بعض الأسئلة الكونية الكبرى هذه الأسئلة التي تعيش معنا يومياً عن المصير والوجود والحياة.