فواز العاسمي فواز العاسمي

المرجئة.. والتأسيس لثقافة التبرير

«ستكون فتنة، القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي إليها، إلا إذا نزلت أو وقعت فمن كانت له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه». حديث رواه أبو بكرة عن الرسول (ص).

قبل الخوض في هذه المقالة لابد من تعريف (الإرجاء) في اللغة. جاء الإرجاء على معنيين الأول بمعنى التأخير والثاني بمعنى إعطاء الرجاء. وكلا المعنيين يصح على أتباع هذه الفرقة.. فبالمعنى الأول كانوا يؤخرون العمل عن النية والعقد. وبالمعنى الثاني قالوا: «لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة» لن أخوض في الجذور الاقتصادية والاجتماعية للفتنة الكبرى وما نتج عنها من خلاف سياسي وديني لضيق المساحة، إلا أنه، كان لمقتل عثمان ودمه الستار الظاهر الذي أخفى كل الأبعاد الحقيقية للصراع. فقد أشارت كتب التاريخ لفريقين كبيرين من الزعامات ذات القدر بين المسلمين إبان الفتنة، طلحة والزبير والسيدة عائشة من جهة وعلي من جهة أخرى. وفي هذا الصراع اعتزل فريقان آخران جانبا، معاوية الذي استغل دهاءه السياسي بانتظار ما يخلص إليه الصراع وإن دعم نظريا فريق طلحة والزبير. أما الفريق الآخر فتزعمه سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر مستندين للحديث الآنف ذكره، لقد تطور هذا الموقف من الصحابيين ابن عمر وابن الوقاص في زمن معاوية إلى نزعة تبريرية أُطلق عليها الإرجاء وعلى أتباعها المرجئة.. وقد انتهت الفتنة بعد انتصار علي في موقعة الجمل إلى ثلاث قوى أساسية الأمويون بقيادة معاوية في مواجهة علي وأتباعه وبينهما معتزلو الصراع أو القاعدون عنه. استطاعت تلك الجماعة (المرجئة) بعد أن نشط منظروها ـ ذكر الشهرستاني في الملل والنحل ثلاثة عشر محدثا من أئمة الحديث منهم سعيد بن جبير وغيره ـ أن يؤسسوا في مقالاتهم لمنطق تبريري غير خاضع لأي من نشاط الفكر في البحث والتمحيص المضني في الركض خلف الحقائق المادية أو حتى العقلية لجذور الفتنة.. لقد كان المرجئة على الدوام مفكروي الحزب الأموي، وكان اجتهادهم يمهد الطريق أمام خلفاء بني أمية الأوائل حتى دانت لهم الدولة بجميع أطيافها ـ على الأقل بالولاء السياسي الظاهر ـ وأجمعت المرجئة بأسرها على أن الدار دار الإيمان وحكم أهلها الإيمان، إلا من ظهر منه خلاف ذلك. ويجمع المرجئة على أن آيات الوعيد الواردة في القرآن الكريم فيها استثناء مضمر ـ لابد أنهم قصدوا خلفاء بني أمية ـ وهو مسلك تبريري يفتح باب الاستعباد والظلم على مصراعيه بناء على ما أسلفنا من قولهم / لا تضر مع الإيمان معصية / ولا شك أن هذا الخوف من إطلاق الأسماء الواضحة على المسميات ومن اتخاذ موقف واضح من قضايا كثيرة كقضية الإمامة التي أبدع الخوارج الكثير من المقالات فيها ،فكان من أراء الخوارج ـ إنكار إمامة الجائر ويرونها حتى في غير القرشي إن كان يستحقها ـ وهو سعي دائب وحثيث لمحاولة إزالة حكم بني أمية ولو بالسيف. أما المرجئة بهذا التردد والخوف والتحرج من اتخاذ موقف صريح نستطيع الحكم عليهم بأنهم امتداد طبيعي لأولئك الذين تنحوا خارج صراع /علي وطلحة والزبير/.. ومن شأن هذا الموقف التبريري والمنطق العقائدي المدفوع بانتهازية سياسية أن يضيف للظلم قوة عن طريق الانتقاص من قوى الحق، وهو ما عبر عنه الرسول الكريم بقوله: «الساكت عن الحق شيطان أخرس»، ولكن للحقيقة لم تبق المرجئة على هذه السلبية، بل شاركت عند أفول العصر الأموي في الثورة، وكان لها دورها الذي لا يُنكر في التأسيس لما تلا ذلك من أحداث.